ثم نزلت آية أشدّ في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قالوا : انتهينا ربّنا ، فقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله ، وماتوا على فراشهم ، وكانوا يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان ، فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ..) إلى آخر الآية.
وقال أبو ميسرة : نزلت هذه الآيات بسبب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإنه ذكر للنّبي صلىاللهعليهوسلم عيوب الخمر ، وما ينزل بالناس من أجلها ، ودعا إلى الله في تحريمها ، وقال : اللهم بيّن لنا فيها ـ أي في الخمر ـ بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآيات فقال عمر : انتهينا انتهينا.
وقد مرّ تحريم الخمر للتّرويض وبالتدريج في مراحل أربع ، وهذه الآيات في سورة المائدة تحرّم تحريما قاطعا الخمر وهو المتّخذ من ماء العنب النّيء ، وتشمل كل شراب مسكر خامر العقل وغطّاه ، وتحرّم أيضا الميسر (القمار) والأنصاب وهي كما تقدم حجارة حول الكعبة كان العرب في الجاهلية يعظّمونها ، ويذبحون القرابين عندها. وتحرّم أيضا الأزلام وهي كما تقدّم أعواد ثلاثة كالسهام ، كتب على أحدها : لا ، وعلى الآخر : نعم ، والثالث : غفل لا شيء مكتوبا عليه ، وقد دلّت الآيات على تحريم هذه الأشياء الأربعة من نواح أربع : وهي أولا وصفت بكونها رجسا أي قذرا ، حسّا ومعنى ، عقلا وشرعا ، ووصفت ثانيا بأنها من عمل الشيطان وذلك غاية القبح ، وأمر الله ثالثا باجتنابها ، والأمر بالاجتناب أشدّ تنفيرا من مجرد النّهي عنها أو القول بأنها حرام ، فهو يفيد الحرمة وزيادة وهو التنفير ورابعا جعل الله اجتنابها سببا للفرح والفوز والنجاة في الآخرة.
ثم بيّن الله تعالى مضارّ الخمر والقمار المعنوية : الشخصية والاجتماعية ، فهما سبب إيقاع الناس في العداوة والبغضاء ، وسبب الصّدّ والإعراض عن ذكر الله وعن