وإنّ من ألقى نفسه من شاهق ، وهو في أثناء السقوط ، لا يكون مكلفاً بصيانة النفس ، لعدم التمكّن منه وإن كان بسوء الاختيار ، وقد مرّ انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، عقاباً وملاكاً ، لا خطاباً وحكماً.
قلت : ما ذكرته صحيح لكنّ المقام ليس من صغريات تلك القاعدة حتّى لا يصح خطابه ، بل هو في كلّ آن من الآنات قادر على ترك الغصب ، والإتيان بها في مكان مباح ، فهو أشبه بمن ألقى نفسه من شاهق ، لكنّه مزوّد بجهاز صناعي لو أعمله لهبط إلى الأرض بهدوء ، فعندئذ لا يسقط النهي لا ملاكاً ولا عتاباً ، ولا خطاباً ولا حكما. (١)
٤. فإن قلت : قد سبق في باب الترتّب أنّه لا يجوز خطاب المكلّف بأمرين متزاحمين من دون تقييد أحدهما بترك الآخر ، كأن يقول : انقذ هذا الغريق ، وانقذ ذاك الغريق ، مع عدم استطاعته إلا بإنقاذ أحد الغريقين ، وما ذاك إلا لكونه تكليفاً بالمحال ، وإن كان في وسع المكّلف تعذير نفسه بالاشتغال بإنقاذ أحدهما ، وإن ترتّب عليه غرق الآخر ، فمجرّد التعذير ، لا يسوِّغ التكليف بالمحال ، والمقام أشبه بذلك حيث إنّه مخاطب بخطابين غير قابلين للامتثال معاً ، لكن باب التعذير واسع ، بأن يصلي في مكان مباح ، فكما أنّ فتح باب العذر غير مسوِّغ لخطابين مطلقين ، فهكذا المقام.
قلت : الفرق بين المقامين واضح فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر ، وذلك لأنّ التكليف هناك متقدّم على التعذير ، فلا ينقدح في ذهن المولى إيجاب إنقاذ غريقين مع علمه بعدم قدرة المكلّف إلا بإنقاذ أحدهما ، وإن كان للعبد تعجيز
__________________
١. وقد اختلف تقرير شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في الدورة السابقة ، مع ما أفاده في هذه الدورة وما أثبتناه هو الموافق لتقريره أخيراً.