الثاني : في إمكان جواز النسخ عقلاً أو شرعاً
النسخ عندنا جائز عقلاً ، واقع سمعاً ، وأدلّ دليل على جوازه وقوعه في الشريعة الإسلامية فانّها نسخت شيئاً من الأحكام الواردة في الشرائع السابقة ، كما أنّ كلّ شريعة سماوية نسخت شيئاً ممّا ورد في سابقتها ، مثلاً : جاء في التوراة : إنّ اللّه تعالى قال لنوح عليهالسلام عند خروجه من الفلك انّي جعلت كلّ دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت لذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه » (١) مع أنّه سبحانه حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من اللحوم.
ويظهر إمكان النسخ من خلال اختلاف المقتضيات الزمانية والمكانية ، فربما يكون حكماً صالحاً في ظروف معينة ، فإذا تغيرت لم يصر ذلك الحكم صالحاً في تلك الظروف ، بل لابدّ من تغيّره أيضاً.
نعم الأحكام المتناغمة مع الفطرة الإنسانية لا تتغيّر مادامت الفطرة الإنسانية.
وبالجملة إمكان النسخ ووقوعه أمر لا ريب فيه غير أنّ اليهود ذهبت إلى امتناعه إمّا عقلاً وشرعاً ، أو شرعاً فقط.
وقد نقل الرازي في تفسيره استدلالهم بشكل مبسوط ، ونحن نلخّص كلامه :
إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث : إمّا أن يدلّ على الدوام ، أو يدلّ على خلافه ، أو لايدلّ على أحدهما.
أمّا الأوّل فيلزم من نسخه كذب الخبر الأوّل.
وأمّا الثاني فهذا لا يعدّ نسخاً ، لأنّ المفروض انّ الأمر الأوّل كان مؤقتاً.
__________________
١. سفر التكوين ، الاصحاح التاسع ، الآية ٣.