فمرّيت جفوني (١) ، وعصرت عيني (٢) ليسيل منها دمع لم أجده (٣) ، وخرج منها (٤) بدل الدّمع التّفكّر ، فالبكاء (٥) الّذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم (٦) غير معدّى (٧) إلى التّفكّر البتة ، والبكاء الثّاني مقيّد (٨) معدّى إلى التّفكّر ، فلا يصلح (٩) أنّ
______________________________________________________
(١) الجفون غلاف العين ، و» مرّيت» بمعنى مسحت ، أي فمسحت جفوني ، وأمررت يدي عليها ليسيل الدّمع ، وضمير لم أجده يعود إلى الدّمع.
(٢) أي من دون إمرار اليد عليها.
(٣) جواب لو في قوله : «لو شئت البكاء» أي حتّى لو شئت البكاء ، أي الدّمع ، لم أجده.
(٤) أي من العين أي خرج منها ، بدل الدّمع المطلوب ، التّفكّر الّذي ليس بمطلوب.
(٥) إذا عرفت ما ذكرناه من بيان مقصود الشّاعر ، فظهر أنّ» البكاء الّذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم» ، المراد هو بكاء مطلق ، باعتبار عدم إرادة تعلّقه بمفعول مخصوص ، مبهم بحسب اللّفظ ، وإن كان معيّنا بحسب القصد ، لأنّ المقصود به البكاء الحقيقي.
والمعنى لو شئت أن أوجد حقيقة البكاء لما قدرت على الإتيان بها ، لانعدام مادّة الدّمع فيّ ، وحينئذ فأبكي نزّل منزلة اللّازم كما قيل : والأليق بقول المصنّف أن يقال : فلو شئت أن أبكي دمعا لبكيته فحذف المفعول للاختصار.
(٦) المراد بالإبهام أنّه لم يبيّن متعلّق البكاء ومفعوله ، فيكون تفسيرا للإطلاق ، إذ حينئذ يكون المراد بإطلاقه وإبهامه عدم إرادة تعلّقه بمفعول مخصوص.
(٧) أي غير متجاوز» إلى التّفكر البتّة» ، أي جزما ويقينا.
(٨) أي مقيّد حيث اعتبر فيه تعلّقه بمفعول ، وهو» تفكّرا» فقوله : معدّى إلى التّفكّر تفسير لقوله : «مقيّد».
(٩) وفي بعض النّسخ فلا يصحّ ، والمفاد واحد ، والمعنى فلا يصلح ، أو فلا يصحّ أن يكون البكاء الثّاني تفسيرا للبكاء الأوّل ، وبيانا له ، لعدم كونهما متناسخين ، فإنّ أحدهما مطلق والآخر مقيّد ، فلابدّ في التّفسير أن يكون المفسّر والمبيّن عين المفسّر والمبيّن.
وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يكون البكاء الثّاني قرينة للبكاء الأوّل ، إذ لا بدّ فيما يكون قرينة على شيء ، اتّحاد معناه مع ذلك الشّيء ، ولا اتّحاد بينهما في المقام ، فإذا لا بدّ من الالتزام بأنّ عدم حذف مفعول المشيئة إنّما هو لقصور المقتضي ، وعدم الدّليل لا من جهة المانع ، وهو كون تعلّق المشيئة به غريبا.