يحتمل أن يكون المعنى لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، أي لم يبق فيّ مادّة الدّمع ، فصرت بحيث أقدر على بكاء التّفكّر ، فيكون (١) من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيئة لغرابته ، وفيه (٢) نظر لأنّ ترتّب هذا الكلام على قوله : لم يبق مني الشّوق غير تفكّري ،
______________________________________________________
أبكي بكيت تفكّرا» ليس مجرّد بيان أنّ الشّاعر علّق بكاء التّفكّر على مشيئته وإرادته ، حتّى يرد عليه أنّ هذا خال عن المبالغة ، ومعنى مغسول لا مزيّة له ، بل مراده به إنّ الشّاعر أتى بهذا التّعليق بعد اعتباره عدم بقاء الدّمع في المادّة ، فإذا لا مجال لدعوى خلوّه عن المبالغة.
وقد أجاب عنه الشّارح بقوله : «وفيه نظر» ، والحقّ إنّ هذا قول آخر غير قول صدر الأفاضل ، ويريد هذا القائل : إنّ المراد بالبكاء الأوّل أيضا غير الحقيقي ، أعني بكاء التّفكّر فيصحّ أن يكون الثّاني تفسيرا للأوّل ، فيكون ذكر مفعول المشيئة فيه مع بيانه وتفسيره لغرابته ، لأنّ تعلّق المشيئة ببكاء التّفكر أمر عجيب وغريب.
(١) أي فيكون قول الشّاعر من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيئة للغرابة ، والفرق بين هذا القول وقول صدر الأفاضل : أنّ صدر الأفاضل لم يعتبر عدم بقاء مادّة الدّمع بخلاف هذا القائل حيث اعتبر عدم بقاء مادّة الدّمع ، فالمعنى لم يبق فيّ ، أي في كبدي مادّة الدّمع ، وصرت أقدر على بكاء التّفكّر ، فلو شئت أن أبكي تفكّرا لبكيت تفكّرا ، وعلى كلّ حال فيرد عليهما بما قال الشّارح بقوله : «وفيه نظر».
(٢) أي في قول القائل نظر وإشكال ، وهو أنّ الشّاعر قد رتّب قوله : «فلو شئت أن أبكي تفكّرا» على قوله : «فلم يبق منّي الشّوق غير تفكّري» والتّرتب جاء من الفاء ، ولا ريب أنّ هذا التّرتّب لا يصحّ لو كان المراد من البكاء الأوّل أيضا بكاء التّفكّر ، لأنّ المناسب للتّرتّب كونه إذا طلب بكاء آخر لم يجد سوى التّفكّر.
هذا ما أشار إليه بقوله : «يأبى هذا المعنى» أي التّرتيب يأبى هذا المعنى ، أي كون المراد من البكاء الأوّل هو التّفكّر ، فقوله : «يأبى» خبر أنّ في قوله : «لأنّ التّرتب».
ثمّ بكاء التّفكّر ليس سوى الحزن والأسف على عدم نيل المراد ، وهذا لا يتوقّف على أن لا يبقى الشّوق فيه غير التّفكّر ، وعلى عدم كونه قادرا على البكاء الحقيقي لجواز حصوله ممّن يقدر على البكاء بالدّمع ، كما نرى أنّ كثيرا من النّاس يظهرون الحزن والأسف مع أنّهم قادرون على البكاء الحقيقي ، فإذا لا بدّ من الالتزام بأنّ المراد بالبكاء الأوّل البكاء الحقيقيّ حتّى يصحّ