وأفعالهم الذميمة نجد القرآن ـ كما هو شأنه دائما ـ يراعي جانب العدل والإنصاف ، فيحترم كلّ من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود ، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم ، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال ، وبين من غادرها وطلب الحقّ ، ولهذا يقول :
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(١).
أجل ليس أهل الكتاب سواء ، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه ، وتؤمن به وتهابه ، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها ، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة ، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم ، ويحترم ويمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة ، وخضع للحقّ والإيمان ، وهذا هو أسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحدا على أساس اللون والعنصر ، بل إنما يعاديه على أساس اعتقادي محض ، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحقّ والعدل والخير ، لا غير.
ثمّ إنه يستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا في «عبد الله بن سلام» وجماعته الذين أسلموا معه ، بل شمل هذا المدح (٤٠) من نصارى نجران و (٣٢) من نصارى الحبشة و (٨) أشخاص من أهل الروم كانوا قد أسلموا قبل ذلك ، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة «أهل الكتاب» وهو كما نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.
ثمّ إنّه سبحانه قال : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) معقبا بذلك على العبارات السابقة ومكملا للآية ، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا
__________________
(١) الآناء جمع أنا (على وزن وفا) وأنا (على وزن غنا) بمعنى الأوقات.