قيل : إن هذا المعنى هو الذي صح عن عبادة ، فإن أراد حينئذ أن اللغة على هذا النمط وأن الأصل في الإدراك الطبع بالمناسبة ثم تدرك تلك المناسبة من تعليم المدرك من غير صحة النقل ـ فالمشاهدة تكذبه ، ضرورة صحة نقل الألفاظ ووضعها بحيث لا يفهم منها غير ما وضعت له كما قلنا فى الإلزام الأول ، وإن أراد ذلك مع صحة النقل والوضع باعتبار غير المدرك لها بالطبع لزم ـ صحته أيضا باعتبار ؛ إذا لا فرق بين أفراد الإنسان في أن ما يصح باعتبار فرد منها يصح باعتبار الآخر لصحة جهل الكل لتلك المناسبة ؛ فيلزم بطلان كون الدلالة طبيعية لصحة تخلفها فتخلفها الوضعية ، وغاية ما فيه : تجويز منع النقل لبعض الأفراد لعارض ، ولا حكم للنادر العارض.
وإن أراد أن اللفظ لا بد أن تكون فيه مناسبة ولا تكفي في الدلالة ، ولكن تحمل الواضع على الوضع ، وإلا لم اختص هذا اللفظ بأن يوضع لهذا المعنى دون هذا؟ فحينئذ إن كان مراده مناسبة غير موجبة للوضع بل مرجحة للوضع عند الواضع ولو شاء لأهملها ـ رجع إلى نحو ما تأوله به السكاكي ، كما يأتي ؛ وهو خلاف الظاهر.
وإن أراد مناسبة موجبة للوضع فهو فاسد مما تقرر في الحكمة أن المختار لا يجب عليه شيء وإلا انتفى الاختيار إن كان الواضع هو الله تعالى ؛ وهو الراجح ، وإن كان المخلوق ؛ فمن المعلوم أنه إنما يضع باختيار الله تعالى ؛ على أن المشاهدة تكذبه ؛ فإن المخلوق يضع ألفاظا وينقلها بالاختيار بلا رعاية مناسبة أصلا وإن أراد أن الاختيار من المخلوق محال بلا مناسبة فهو فاسد ؛ فإن اختياره لا يتوقف جزما كأخذ أحد الرغيفين ليكسر سورة الجوع بلا مرجح لأحدهما على الآخر فقد تبين أن هذا القول على ظاهره لا يصح.
(وقد تأوله) أي : القول بأن دلالة اللفظ إنما هي لذاته (السكاكي) أي : حمله السكاكي على غير ظاهره ، وذلك أنه قال : معنى قوله : يدل لذاته : أن فيه وضعا ذاتيا يناسب أن يوضع به لمعنى دون آخر مناسبة لا تؤدي إلى حد الإلجاء وقد تقدمت الإشارة لهذا التأويل آنفا فقول هذا القائل على هذا تنبيه على ما عليه أئمة التصريف المشتمل على الاشتقاق ؛ وهو ما ذكروه من أن للحروف في أنفسها خواص وأوصافا