الألوان أمور متقابلة فهي جزئية من جزئيات الطباق ، وخصت باسم التدبيج لتخيل وجود الألوان فيها كوجود الألوان بالمطر ، فالتدبيج الذي فيه الكناية (نحو قوله) أي قول أبي تمام يرثي رجلا مات في الجهاد (تردى) (١) أي : لبس من ترديت الثوب أخذته رداء ولبسته (ثياب الموت) أي لبس ثياب الموت (حمرا) أي : في حال كونها محمرة بالدم ، وهذا هو الذي يدل على أن المراد بالثياب الثياب الملطخة بالدم لا الثياب التي تلبس للحال ؛ لأن ذلك يحوج إلى جعل الحال الذي هو قوله حمرا حالا مقدرة (فما أتى لها) أي : فلم يأت لتلك الثياب ولم يدخل (الليل إلا وهي) أي : وتلك (الثياب من سندس) أي : من حرير تلك الثياب (خضر) فخضر خبر بعد خبر ؛ لأن القصيدة مضمومة الروي مثلها قوله :
وقد كانت البيض القواضب في الوغى |
بواتر وهي الآن من بعده بتر |
ومعنى البيت أن المرثي لبس الثياب الملطخة بالدم حين قتل ، ولم يدخل عليه الليل حتى صارت تلك الثياب من السندس وصارت خضرا ، فقد جمع بين لونين فقط ، والأول وهو حمرة الثياب كناية عن القتل لاستلزامه إياه عرفا مع قرينة السياق ، والثاني وهو خضرة الثياب كنى به عن دخول الجنة لما علم أن أهل الجنة يلبسون الحرير الأخضر ، وصيرورة هذه الثياب تلك عبارة عن انقلاب حال القتل إلى حالة النعمة بالجنة ، وأما التدبيج المشتمل على التورية ، وهي أن يكون للفظ معنيان قريب وبعيد ويراد به البعيد كقول الحريرى : فمذ اغبر العيش الأخضر ، وصف العيش بالاخضرار كناية عن طيبه ونعومته وكماله ؛ لأن اخضرار العود والنبات يدل على طيبه ونعومته وكونه على أكمل حال ، فيكنى به عن لازمه في الجملة الذي هو الطيب والحسن والكمال ، والاغبرار كناية عن ضيق العيش ونقصانه ، وكونه في حال التلف ؛ لأن اغبرار النبات والمكان يدل على الذبول والتغير والرثاثة ، فيكنى به عن معنى هذا اللازم ، وازور المحبوب الأصفر أي : مال عنى المحبوب الأصفر ، وفي هذا اللون وقعت التورية ، فالمعنى القريب للمحبوب الأصفر هو الإنسان الموصوف بالصفرة المحبوبة ، وازوراره بعده عن
__________________
(١) البيت فى رثاء محمد بن حميد الطوسى ، فى ديوان أبى تمام ص (٣٥٦) ، والإيضاح ص (٢٩١).