وهذا القسم لم يمثلوا منه إلا بما تدخل فيه من على المنتزع منه ، ولما كان تسميتها تجريدية أمرا عاما لها وللباء ، لم يفهم من تلك التسمية أمر يشعر إشعارا بينا ببعض المعاني المعهودة لمن ، كما أنه كذلك في الباء فيحتاج إلى أن يبين لها ما يناسب من معانيها ، وكذلك الباء فيما يأتي والمناسب لها حيث دخلت على المنتزع منه أن تكون للابتداء ؛ لأن المنتزع مبدؤه ونشأته من المنتزع منه ، الذي هو مدخول من. وأما جعلها للبيان فلا تفيد المبالغة ، فإن بيان شيء بشيء لا يدل على كمال المبين في الوصف ، بخلاف جعله مبدأ ومنشأ لذي وصف باعتبار ذلك الوصف ، فكأنه قيل : خرج من فلان إلى وأتاني منه صديق آخر حميم فليتأمل.
فقولهم : لي من فلان صديق حميم يفيد المبالغة في وصف فلان بالصداقة (أي : بلغ) فلان (من) مراتب (الصداقة حدا) أي : مكانا (صح معه) أي : صح مع ذلك الحد وذلك المكان ، أي : صح بمصاحبته للاتصاف بذلك القدر من الصداقة (أن يستخلص منه) أي أن يستخرج من فلان صديق (آخر) حميم (مثله فيها) أي : في الصداقة.
وينبغي أن يعلم أن المبالغة إنما يناسبها كل المناسبة خروج صديق منه ؛ لأن صداقته بلغت إلى حيث تفيض عنها صداقة أخرى وأما الاستخلاص فإنما يناسب الانتزاع بالدعوى ، وفيها الإشعار بالتطلب والتكلف وإن كان يفيد أنه قد اشتمل على زائد يستخلص منه. إلا أن المعنى الأول أقوى كما قررناه فيما تقدم.
(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون حاصلا بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه ، (نحو قولهم) في المبالغة في وصف فلان بالكرم : (لئن سألت فلان لتسألن به البحر) فقائل هذا القول بالغ في اتصاف فلان بالسماحة حتى صار بحيث ينتزع منه كريم آخر يسمى بحرا مثله في الكرم والباء هذه حيث قامت قرينة على أن المراد بالبحر ما يجرد من مدخولها يناسبها من معانيها الأصلية أن تكون للمصاحبة ، أي : لتسألن مع فلان حين سؤالك له بحرا آخر معه يسأل ؛ لكونه مثله في الكرم ، ويحتمل أن تكون سببية أي : لتسألن بسببه البحر بمعنى أنه كان سببا لوجود بحر آخر معه مجردا منه ، أي : خارجا منه مثله يسأل معه.