بلا تقدير المجرور بمن لأنه عادل بين كونه يحوي الغنائم أو يموت الكريم. والمطروق الجاري على الألسن أن يقال : لا بد لي من الغنيمة أو الموت فيفهم منه أن المراد بالكريم نفسه والمدح المستفاد من التعبير بلفظ الكريم يقتضي المبالغة المصححة للتجريد. وقيل وجه النظر أن الكلام حينئذ يكون التفاتا من التكلم إلى الغيبة ، ويرد بوجهين.
أحدهما : أن الالتفات لو كان هو وجه النظر لم يتوقف على تقدير قوله : مني ؛ لأن المقام للمتكلم بدون تقدير مني. فكيف يقال : وفيه نظر ؛ لأنه التفات مع وجود مثل هذا النظر في مثال المنظر وهو المصنف؟ والآخر : أن الالتفات لا ينافي التجريد على ما قررناه آنفا ، فلا يصح التنظير به في التجريد.
(ومنها) أي ومن أقسام التجريد ما يكون مدلولا فيه على المعنى المجرد بطريق الكناية ، التي هي أن يعبر بالملزوم ويراد اللازم ، مع صحة إرادة الأصل ، وذلك (نحو قوله : يا خير من يركب المطي) (١) جمع مطية وهي المركوب من الإبل (ولا يشرب كأسا) وهو إناء من خمر (بكف من بخلا) أي : بكف من هو موصوف بالبخل فقوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن المراد (أي : يشرب الكأس بكف الجواد) والجواد تجريد ؛ وذلك أن المتكلم (انتزع منه) أي من المخاطب (جوادا) آخر (يشرب بكفه).
وجرى في إفادة هذا المعنى (على طريق الكناية ؛ لأنه) أي : وبيان جريانه على طريق الكناية التي هي التعبير بالملزوم عن اللازم أنه أي أن المخاطب (إذا نفي عنه الشرب بكف البخيل) وذلك هو المصرح به في قوله ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، ومعلوم أن ذلك المخاطب من أهل الشرب (فقد أثبت له) أي للمخاطب (الشرب بكف كريم) لأن الشرب لما تحقق في نفس الأمر ولم يكن بكف بخيل فقد كان بكف كريم ، إذ لا واسطة بينهما. (ومعلوم) أيضا (أنه إنما يشرب غالبا بكف) نفسه (فهو) حينئذ (ذلك الكريم) في نفس الأمر.
__________________
(١) البيت للأعشى الأكبر ، أعشى قيس ، فى الإيضاح ص (٢٤٤) ، وشرح المرشدى (٢ / ٩٨).