ومن البين أن الغرض في الكناية عن الشرب بكف الكريم ـ بنفي الشرب بكف البخيل ـ إنما هو الوصف بالكرم وأما الشرب بالكف فهو واسطة لا يتعلق به الغرض ، ولكن شربه بكف كريم يستلزم لما كانت الكف للممدوح ـ أنه كريم ـ فالكناية في الحقيقة عن الكريم ، لا عن كونه يشرب الخمر بكفه ، وقد يقال : إن الشرب مما يتمدح به لزعمهم في الجاهلية أن فيه مصالح كالشجاعة وزيادة الكرم ، فعليه تكون الكناية عنه مقصودة أيضا وعلى كل حال فقد جرد كريما آخر من المخاطب ، وكنى عنه أو عن شربه بكفه المستلزم له بنفي الشرب بكف البخيل ، ولا منافاة بين الكناية وكون المكنى عنه مجردا من غيره ، فإنه كما صح التعبير عن المجرد بالتصريح يصح بالكناية. فلو امتنع التعبير عن المجرد بالكناية لامتنع بالتصريح. وقد خفى هذا الذي قررناه ـ من كون التجريد لا ينافي الكناية ـ على بعضهم ، فزعم ذلك البعض أن كلام المصنف ـ في جعل هذا تجريدا بالكناية ـ لا يصح لأن الخطاب في قوله : يا خير من يركب المطي. إن كان لنفسه فهو تجريد ؛ لأنه صير نفسه أمامه مخاطبا ، وإنما يصيرها كذلك بالتجريد.
وإذا كان هذا تجريدا فقوله : ولا يتشرب كأسا بكف من بخلا كناية عن الكريم ؛ ليكون وصفا للمجرد أولا.
ولا تجريد في الكناية نفسها ؛ لأن التجريد وقع أولا. والكلام في كون الكناية تتضمن تجريدا مستقلا ولم يوجد على هذا وإن كان خطابا لغيره كان قوله : ولا يشرب كأسا بكف من بخلا ، كناية عن الكريم الذي هو ذلك المخاطب ، بواسطة دلالته على أنه يشرب بكف كريم ، مع العلم بأن الكف كفه ونحن نقول في الرد على هذا البعض أن الكناية لا تنافي التجريد ، كما قررناه قريبا إذ يصح أن يجرد المعنى ، ثم يعبر عنه بلفظ الكناية ، كما يصح بلفظ التصريح. ونقول أيضا في الرد على ذلك البعض في مقتضى كلامه ـ وهو أنه يصح أن يكون خطابا لنفسه ـ : لو كان الخطاب لنفسه لم يكن هذا المثال قسما برأسه ، بل يكون داخلا فيما بعد وهو التجريد في مخاطبة الإنسان نفسه ، ولكن هذا الرد يتوقف بالنسبة إلى الطرف الثاني من الاعتراض ، وهو أنه إن أراد خطاب غيره كان كناية ، ولا يكون تجريدا ، على أن المعترض يقول بمنافاة التجريد