أي : تضام وتراكم فوق رؤوسها ثم وصف الغبار بما فيه غلو فقال : من وصف ذلك الغبار إنه (لو تبتغي عنقا) أي لو تريد تلك الجياد عنقا أي : سيرا مسرعا (عليه لأمكنا) ذلك العنق وإرادة الخيل السير عبارة عن إرادة أهلها ، والخطب فيه سهل فلا شك أن إمكان مشي الخيل على الغبار في الهواء وهو مدعى الشاعر محال لضعف مقاومته ثقل الخيل بل مشي الدرة عليه غير ممكن لوهنه ولكن يخيل إلى الوهم تخييلا حسنا من ادعاء كثرته وكونه كالجبال في الهواء صحته فلا يحيله حتى يلتفت إلى القواعد ، فصار مقبولا بخلاف إخافة النطف فيما تقدم.
ولقائل أن يقول : إنما هنا أيضا الاستحالة العادية لإمكان مشي الخيل وعنقها في الهواء والريح فضلا عما إذا وجد جسم آخر معه ، وإن أريد الاستحالة العامية أو المقيدة بنفي الإمكان كان فيه من التمحل ما تقدم تأمل.
وههنا في العثير لطيفة أشار إليها بعضهم وهو الشارح العلامة في شرح المفتاح ، وذلك أنه لما فسره أشار إلى ضبطه بنوع لطيف متضمن للإيهام أو التوجيه فقال : العثير الغبار لا تفتح فيه لعين فعدم فتح العين يحتمل أن يراد به عدم فتح عين العثير أي أوله فيكون إشارة إلى ضبطه ، ويحتمل أن يراد عدم فتح العين المعلومة في نفس الغبار والمراد المعنى الأول. فإن قلنا إنه أبعد المعنيين كان في كلامه إيهام وتورية ، وإلا فتوجيه ، ولكن التوجيه يبعده قصد الضبط بالقرينة إلا أن يجوز تعيين القرينة في التوجيه ، وقد ذكرت هنا أيضا قصة تشتمل على هذه النكتة من فتح العين لإرادة معنى خفي فيكون تورية أو مساو فيكون توجيها لمناسبتها ، وهي ألطف مما ذكر العلامة لما فيها من التفطن الغريب والهجو بوجه لطيف لما يستحقه بدعوى القائل ، وذلك أن بعض البغالين أعني السائقين للبغال كان يسوق بغلة بسوق بغداد وكان بعض عدول دار القضاء حاضرا بالسوق ، فضرطت البغلة أي : تنفست بصوت فقال البغال على عادة أمثاله عند فعل البغلة ذلك تنزيها لنفسه عن أن تقابله بذلك الفعل بلحية العدل بكسر العين أي : ما فعلت يقع بلحية العدل لا في وجه السائق والعدل بالكسر : شق الوقر أي : الحمل فقال بعض الحذاق الظرفاء على الفور للبغال : افتح العين فإن المولى حاضر ، وقد