بما ذكر أن الضربين اشتركا في الانقطاع لكن بين إنقطاعيهما مخالفة وهو أن الانقطاع في الأول يقدر متصلا لوجود العموم فيه ، فيضعف التكلف في تقديره.
والانقطاع في الثاني لا يقدر فيه الاتصال ؛ لكثرة التمحل بكثرة التقدير فيه ، وإلى هذا أشار بقوله : (لكنه) أي الاستثناء المنقطع في هذا الضرب (لم يقدر متصلا) كما قدر في الضرب الأول لما ذكر من سهولة تقدير الاتصال في الأول دون الثاني ؛ لأن الثاني ليس فيه صفة ذم منفية على وجه العموم ، فيمكن تقدير دخول المستثنى فيها ، وهو صفة مدح بتقدير كونها صفة ذم ، وإنما فيه إثبات صفة لا على وجه العموم فتقدير دخول ما بعد الآلة فيها يحتاج إلى تأويل الكلام ، بأن يكون المراد في المثال كما أشرنا إليه : أنا أفصح العرب فلا شيء يخل بفصاحتي ، أو لا عيب في فصاحتي إلا أني من قريش ، إن كان عيبا فيعود حينئذ إلى الاتصال.
ولا يخفى ما فيه من التعسف المحتاج إلى تقدير جملة أخرى لم ينطق بها ، وإذ لم يكن في هذا الضرب الثاني تقدير الاتصال (فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني) فقط.
وهو أن ذكر أداة الاستثناء قبل ذكر المستثنى يوهم الاتصال ، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى ، جاء التأكيد ؛ لأن كون الأصل في الاستثناء الاتصال يقتضي أنه هو المطلوب أولا. فالعدول عنه إلى خلافه يفهم عدم إمكانه ، ويشعر بأنه طلب فلم يوجد ولا شك أن طلب استثناء ذم حتى لا يوجد فيستثنى المدح أوكد من مجرد إنشائه ابتداء ، ففيه إثبات مدح على مدح ، وكون المزيد على وجه أبلغ كما تقدم وفي قولنا في تفسير الوجه الثاني تبعا للمصنف أن ذكر الأداة يوهم إلى آخر ما تقدم من البحث ، وهو أن المحتاج إليه في بيان التأكيد هو كون الأصل في الاستثناء الاتصال ؛ ليفهم أنه ما عدل عنه حتى لم يمكن. وأما ذكر الإيهام فلا يفيد في هذا المعنى. نعم ربما كانت في الإشارة إلى وجه تسميته مشبها للذم ؛ لأن إيهام استثناء ما يخالف ما قبله يقتضي أنه بآلة ذم في أصلها ، وأما إفادة هذا الضرب التأكيد بالوجه الأول ، وهو أنه كدعوى الشيء ببينة فلا يصح لأنه مبني على التعليق بالمحال. والتعليق بالمحال مبني على تقدير الاستثناء متصلا.
فأما إذا قلنا : لا عيب فيه إلا الكرم إن كان عيبا ، أفاد أن العيب منتف عنه في كل ما