فالتأويل على الانقطاع متعين يفيد هذا الضرب ما يفيده الأول من التأكيد بالوجهين وهما أن فيه من التعليق ما هو كإثبات الشيء ببينة ، وأن فيه الإشعار بطلب ذم فلم يجده فاستثنى المدح وهو ظاهر (والاستدراك) المفهوم من لفظ لكن (في هذا الباب) أي : في باب تأكيد المدح بما يشبه الذم يفيده (ك) ما يفيده (الاستثناء) لأنهما أعني الاستثناء والاستدراك من واد واحد ، إذ كل منهما لإخراج ما هو بصدد الدخول ، وهما أو حقيقة فإنك إذا قلت في الاستدراك : زيد شجاع لكنه بخيل فهو لإخراج ما أوهم ثبوت الشجاعة دخوله ؛ لأن الشجاعة تلائم الكرم كما أنك إذا قلت في الاستثناء : جاء القوم إلا زيدا ، فهو لإخراج ما أوهم عموم الناس دخوله ، وإن كان الإيهام في الأول بطريق الملاءمة والثاني بطريق الدلالة ، التي هي أقوى ، فإذا أتى بصفة مدح ثم أتى بآلة استدراك بعدها صفة مدح ، أشعر الكلام بأنه لم يجد حالا يستدركه على الصفة المدحية غير ملائم لها ، الذي هو الأصل ، فأتى بصفة مدح مستدركة على أخرى ، فيجيء التأكيد كما تقدم في الضرب الثاني في الاستثناء ولم يكتف عن ذكر الاستدراك بخلاف إلا فيمكن أن تختص بهذا الحكم لصحة جعلها استثناء بالتأويل. كما تقدم.
وإن كانت بحسب الظاهر المراد بمعنى لكن ثم مثل للاستدراك المفيد لتأكيد المدح بما يشبه الذم ، فقال : وذلك (كما في قوله) أي : بديع الزمان الهمذاني يمدح خلف بن أحمد : (هو البدر) (١) رفعة وشرفا (إلا أنه البحر زاخرا) أي مرتفعا متراكم الأمواج كرما. (سوى أنه الضرغام) أي الأسد شجاعة وقوة (لكنه الوبل) جمع وابل وهو المطر الغزير ، ولم يكتف بوصفه بكونه بحرا في الكرم عن كونه وبلا فيه ؛ لأن الوبلية تقتضي وجود العطاء ، والبحرية تقتضي التهيؤ للأخذ من كل جانب ، فالكرم المستفاد من البحرية كالقوة والمستفاد من الوبلية كالفعل.
فلم يكتف بالأول عن الثاني فقوله إلا أنه البحر وسوى أنه الضرغام يجري فيهما ما جرى فيما تقدم وهو بيد أني من قريش إذ هما استثناء من الضرب الثاني وقوله
__________________
(١) البيت لبديع الزمان الهمذانى ، وهو بلا نسبة فى مفتاح العلوم ص (٢٢٦) ، وعقود الجمان (٢ / ١٠٩).