من تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضرب آخر) يعود إلى الأول في المعنى ، ولو كان خلافه في الصورة التركيبية. وسنبين ذلك. وهذا الضرب الذي قلنا أنه يعود إلى الأول ، هو أن يؤتي بالاستثناء مفرغا بأن لا يذكر المستثنى منه ، ويكون العامل مما فيه معنى الذم ويكون المستثنى مما فيه معنى المدح والمستثنى هنا هو المعمول لهذا الفعل الذي فيه معنى الذم ؛ لأن الغرض وجود التفريغ ، وذلك (نحو) قوله تعالى حكاية عن سحرة فرعون : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) (١) أي ما تعيب يا فرعون إلا هذه المنقبة ، التي هي أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإيمان بالله تعالى يقال نقم منه وانتقم : إذا عابه في شيء وكرهه لأجل ذلك الشيء.
وكون الإيمان أصل المناقب وقاعدة النجاة والشرف الدنيوي والأخروي مما لا يخالف فيه عاقل ، فلا يضر كون فرعون يعتقده عيبا بالنسبة لكفره ، فقد أتى في المثال بأداة استثناء بعدها صفة مدح هي الإيمان ، والفعل المنفي مما فيه معنى الذم ؛ لأنه من العيب فهو من تأويل لا عيب فينا إلا الإيمان ، إن كان عيبا قيل أن الاستثناء هنا متصل حقيقة إذ التقدير ما تعيب شيئا منا إلا الإيمان ، بخلافه فيما تقدم ، فإنه منقطع ، أو في حكم المنقطع وفيه أنه إن جعل متصلا حقيقة خرج المثال عما نحن بصدده ، إذ ليس فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم إذ حاصل المعنى أنك ما عبت فينا أمرا من الأمور إلا الإيمان ، جعلته عيبا وليس بعيب في نفسه ، كما تعتقد ، فهو بمنزلة ما لو قيل : ما أنكرت من أفعال زيد إلا مواصلة فلان ، وليست مما ينكر فالنزاع إنما هو في المستثنى هل هو كما اعتقده المخاطب أو لا؟ وليس منه تأكيد المدح بما يشبه الذم في شيء ؛ لأنه لم يستثن مدحا أكد به مدحا هو نفي العيب ، وإنما استثنى أمرا مسلم الدخول ، وبقي النزاع فيه هل هو كم زعمه المخاطب أم لا بخلاف قولنا لا عيب عندنا إلا الإيمان إن كان عيبا فهو بمنزلة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم |
بهن فلول من قراع الكتائب (٢) |
__________________
(١) الأعراف : ١٢٦.
(٢) البيت للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص (٤٤) ، والإشارات ص (١١١) ، والمصباح ص (٢٣٩) ، والإيضاح ص (٣١٤).