هذا الكلام الأول (وقول أبي الطيب :
لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت |
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا) (١) |
هذا الثاني ومعنى البيت الأول أن مرتاد المنية ، أي : المنية التي ترتاد ، أي : تطلب النفوس كطلب الرائد للكلأ ؛ فالإضافة بيانية إذ ليس للمنية مرتاد غيرها ، لو حار أي : لو تحير ذلك المرتاد الذي هو المنية في طلب النفوس بسبب خفاء أماكنها عليه ، لم يجد ذلك المرتاد دليلا يدل على النفوس المطلوبة له إلا الفراق ، فجعل دليل المنية على النفوس محصورا في الفراق ، أي : فراق الأحبة ، وقيد كونه دليلا بحال الحيرة في طلب النفوس ، ومعنى البيت الثاني أن مفارقة الأحباب هي الموصلة للمنية عند طلبها للأرواح ، فلولاها ما اتصلت المنية بالأرواح ، فيفهم أن المواصلة مانعة من الوصول إلى الأرواح ، فالفراق إما أن يكون دليلا أو جزءا من الدليل ، ومن المعلوم أن المراد بالحيرة في البيت الأول رغبة المنية في النفوس وطلبها لها ، وقد علم أن التوصل مطلقا لا يكون إلا بالطلب ، فالتقييد بالحيرة لا يحتاج إليه لوجهين : أحدهما : أن الطالب للشيء يتحير عند انتفاء الدليل فلا يحتاج لذكر التحير
والآخر : ما تقرر من كون المنية لا عدو لها إلا النفوس فهي أبدا طالبة لها متحيرة عند عدم الدليل ، وقد اجتمع البيتان على الحاصل ، وهو أنه لا دليل للمنية على النفوس إلا الفراق ، أما في الأول فواضح وأما في الثاني فإن لو لا تفيد أن نفي الفراق بنفي الموصل ، كما أشرنا إليه ، فلزم انحصار الموصل في الفراق على أنه دليل أو جزء الدليل ، فمعنى كل من البيتين يعود إلى معنى الآخر ، فما يقال : من أن في الأول الحصر والتقييد بالحيرة ، فجاء أبلغ من الثاني لا عبرة به ، وقد ظهر أن أبا الطيب أخذ المعنى كله مع لفظ المنية والفراق والوجدان وبدل النفوس بالأرواح ، وهما متساويان في البلاغة ، فكان الثاني أبعد من الذم.
__________________
(١) البيت لأبى الطيب فى شرح ديوانه (١ / ٥٩) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٧٩).