جاء في بعض الروايات ان إبليس كان قبل ضرب الدرهم والدينار في شغل شاغل ، لإغواء الناس ، وصرفهم عن عبادة الرحمن الى عبادة الأوثان ، ولا يجد فترة من راحة في ليل ولا نهار .. وبعد ان دارت الأيام ، وضرب الدرهم والدينار تنفس إبليس الصعداء ، وفرح فرحا لم يفرح مثله من قبل ، وأقام حفلات الأنس والطرب ، وكان يرقص ، وهو يضع الدرهم على احدى عينيه ، والدينار على الثانية ، ويقول : لقد أرحتماني .. ولست أبالي بعد اليوم أعبد كما الناس ، أم عبدوا الأوثان ..
وسواء أكانت هذه الرواية قضية في واقعة ، أم كانت أسطورة من الأساطير فإنها تصوير صادق ورائع لعدم الفرق بين المال ، وعبادة الأوثان ، فكل منهما يصرف عن الله والحق ، بل ان عبادة المال أسوأ أثرا ، وأكثر ضررا ، لأن المال مادة الشهوات ، ومصدر الفساد في كثير من الأحيان .. فالذين خانوا أوطانهم انما خانوها من أجل المال ، والذين حاربوا الأنبياء والمصلحين ، وحرّفوا الدين ، وشريعة سيد المرسلين انما فعلوا ذلك بعد أن قبضوا الثمن .. ومهما شككت فإني لا أشك ان الملحدين وعبدة الأوثان الذين لم يخونوا بلادهم ، ولم يتآمروا على الأبرار والمخلصين لهم خير ألف مرة من الصائم المصلي ، والحاج المزكي الذي تآمر مع أعداء الله على بيع البلاد ، وأقوات العباد.
اذن ، فلا عجب إذا أناط سبحانه نيل الدرجات عنده بالبذل والتضحية بالمال ، وبالعزيز الغالي ، حيث يكشف هذا البذل عن إيثار الحق على الباطل ، والآجل على العاجل.
ولك أن تسأل : ان قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) يدل بظاهره ان الجنة محرمة الا على من بذل الطيّب من ماله ، مع العلم ان كثيرا من الناس ، أو أكثر الناس لا يملكون شيئا.
الجواب : ان الخطاب في الآية الكريمة يختص بالمالك القادر ، أما العاجز الذي لا يملك شيئا فيجب أن يأخذ ، لا أن يعطي ، بل هو أحد موارد البذل والعطاء .. هذا ، الى ان الذين يجاهدون بأنفسهم أعظم درجة عند الله من الذين يجاهدون بأموالهم ، لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود ، كما قال الشاعر.
وكما دلت الآية على ان القرب من الله سبحانه منوط بالبذل والتضحية فقد