وقد فرض على النبي (ص) ان يعامل هؤلاء ، وكل من نطق بكلمة الإسلام معاملة المسلمين ، فيحقن دماءهم ، ويحترم أموالهم ، ويندبهم الى الحرب معه ، ويشركهم في الغنائم ، لأن الإسلام ما زال في دور الإنشاء والتكوين ، فلو قتلهم الرسول ، أو طردهم لقال البسطاء : ان محمدا لا يرضيه أحد آمن به أو كفر ، ولاتخذ المشركون من ذلك وسيلة للدعاية ضد الإسلام ونبيه .. ومن أجل هذا حار النبي (ص) في أمر المنافقين ، وضاق بهم ذرعا .. ان قبلهم أفسدوا ، وزهدوا المسلمين في الجهاد ، وان رفضهم خاف على دعوته من قلة الأنصار والأتباع ، فأنزل الله سبحانه قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ). أي ليس من حكمته تعالى ان يدع الحال كذلك ، يتوارى المنافقون وراء دعوى الإسلام ، بل انه سبحانه يسلط عليهم الأضواء ، ليعرفوا ويفتضحوا أمام الملأ ، ولا يبقى لهم منفذ للكيد والفساد .. والمحك الذي يفضح المنافقين ليس أمرا بالكلام كالتلفظ بالشهادتين ، ولا بالركوع والسجود ، وما اليه مما لا عسر فيه ولا حرج ، وانما هو الأمر بالجهاد وبذل النفس الذي يكشف الغطاء عن المنافقين ، ولا يبقي لهم مجالا للرياء والخداع ، والكيد ونفث السموم.
بهذا الامتحان العسير ، والأمر بالصبر والثبات في وقعة أحد تعرفون يا معشر المؤمنين نعمة الله عليكم ، وانه لم يدعكم على الحال التي كنتم عليها من التباس الصادقين منكم بالأعداء الأدعياء الذين تقنعوا من قبل باسم الإسلام .. والمراد بالطيب المؤمنون ، وبالخبيث المنافقون ، وأفرد اللفظ ، لأنه اسم جنس.
(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). أي ليس من حكمته تعالى ، ولا من سننه أن يطلعكم على علمه بالناس ، ويقول لكم : هذا طيب ، وذاك خبيث ، بل عليكم أن تعرفوا ذلك بالتجربة عند المحن والشدائد ، كما حدث في وقعة أحد ، وعند ما دعا النبي (ص) الصحابة على ما بهم من ألم الجراح أن يخرجوا معه ثانية لطلب العدو ، ومقابلته في حمراء الأسد .. وبكلمة ان الله لا يخبر أحدا بما في قلوب الناس من ايمان ونفاق ، وانما يأمر بالتضحية بالنفس والمال ، وعند التنفيذ والعمل يعرف الأصيل من الدخيل.
أجل ، ان الله يطلع بعض رسله على نفاق هذا ، أو ايمان ذاك لحكمة هو بها أعلم ، وهذا معنى قوله سبحانه : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ).