الخير والشر ، ونهاه عن هذا ، وأمره بذاك ، فأطاعه من أطاع ، وعصاه من عصى ، ثم مضى كل الى حفرته ، دون ان يثاب المطيع ويعاقب العاصي ، بل ان كثيرا من العصاة طغوا وبغوا ، وملأوا الأرض ظلما وجورا ، ولم يحاسبهم محاسب ، ويسألهم سائل ، فإن افترض انه لا بعث ولا حساب غدا فمعنى هذا ان الظالم والمظلوم ، والمؤمن والكافر عند الله سواء ، بل الكافر به خير وأفضل عنده من المؤمن ، والطاغية المفسد أكرم على الله ممن استشهد في سبيل مرضاته .. ولا شك في ان هذا يتنافى مع عدل الله وحكمته وقدرته ، بل ومع وجوده .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. وقد رأينا كثيرا من المظلومين يصرخون من الأعماق قائلين : لو كان الله موجودا لما أبقى طاغية على وجه الأرض .. وليس هذا القول الا انعكاسا عن غريزة الايمان بوجود عادل قادر يقتص للمظلوم من الظالم ، ولكنهم تعجلوا القصاص لحرقة الألم ، وذهلوا عن فطرتهم التي فطرهم الله (١) فقالوا ما قالوا.
كتبت في اثبات البعث والحساب والجزاء مؤلفات ومقالات وعند تفسير الآيات المتصلة بذلك ، وتعيدني اليه الآن الآية التي أفسرها ، وقد اوحت إليّ بأن أقوى الأدلة على ثبوت البعث قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ ١٧ غافر». وهي بمعنى الآية التي نفسرها ، ولكنها أوضح .. انها تحمل برهانها معها ، وتدل على نفسها بنفسها .. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت. ولما ذا؟ لأنه لا ظلم عند الله ، بل هو سريع الحساب. والتحليل العقلي لهذه القضية انه لو لا هذا اليوم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت لكان الله ظالما ، ووجوده نقمة ، وتكليفه عبثا .. سبحانه وتعالى عما يصفون .. والنتيجة الحتمية لهذا المنطق ان كل من أنكر البعث والحساب والجزاء فقد أنكر وجود الله من حيث يريد أو لا يريد.
__________________
(١). انظر تفسير الآية ٤١ من الأنعام ، فقرة «الله والفطرة».