(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وامتثل نوح (ع) أمر الله ، ودعا المؤمنين من أهله وأصحابه أن يركبوا معه السفينة ، وهو ومن معه يسمون عليها في الجريان والرسو .. ورأيت تفسيرا لبعض الصوفية يقول : المراد بسفينة النجاة هنا الشريعة ، وبالأمواج أهواء النفس وشهواتها .. فتساءلت ، وأنا أقرأ هذا التفسير : هل يا ترى استوحى بعض الشيوخ من هذا التفسير تسمية كتابه أو رسالته بسفينة النجاة؟.
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ). وفي هذه الحال التي هي أشبه بسكرات الموت ينظر نوح الى ولده بحسرة ، ويدعوه الى الايمان وسبيل النجاة قبل أن يلفظ النفس الأخير (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ). مسكين الأب .. ما مسّ الأذى طرفا من جسم ولده الا ومسه في روحه وقلبه .. لقد أيقن نوح بأن ابنه هالك لا محالة ان أصر على الشرك ، فهتف بلهفة الأبوة : يا بني آمن بالله واركب معنا .. ولكن لا حياة لمن تنادي ، فإن رعونة الفتوة قد أعمته عن سوء العاقبة (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ). لقد صوّر له الجهل والغرور ان المشكلة مشكلة ماء ، وانه يحلها بالصعود الى الجبل ، ولم يدر انها مشيئة الله وغضبه على المشركين والمتمردين.
(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ). فأجابه نوح ليست المشكلة مشكلة ماء كما تظن ، وانما هي مشيئة الله التي لا مفر منها الى غيره .. فمن رحم الله نجا ، ومن غضب عليه هلك (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وفي أثناء الحديث بين الوالد وولده ارتفع الموج ، وغاب الولد عن عيني والده .. والذي حدث لنوح (ع) مع ولده يحدث لكثير من الآباء مع أبنائهم الذين يسيئون تقدير الأمور وعواقبها ، ويكون مصيرهم تماما كمصير ابن نوح.
(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ). أمر الله الأرض أن تبتلع الماء ، وأمر السماء أن تكف عن الصب ، فكفت هذه ، وابتلعت تلك ، وانتهى الأمر بنجاة المؤمنين ، وهلاك المشركين ، وإذا بالسفينة تستقر على الجودي ، وهو جبل بالموصل كما قيل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين كذبوا بالحق. وبعدا كلمة دعاء أي أبعدهم الله عن رحمته ، مثل سحقا في قوله تعالى : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ـ ١١ الملك».