وبكلام آخر ان دعاء النبي لا يعبر إلا عن حبه ورغبته ، وليس من شك ان الأنبياء يحبون ويرغبون في ايمان الناس جميعا وهدايتهم الى الحق ، ومع ذلك قال الله لسيد المرسلين الأعظم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ـ ٥٦ القصص». ولو تحقق كل ما يرغب فيه الأنبياء لما وجد على ظهرها كافر ولا مجرم ، ولما قاسى رسل الله من الكفار والفجار ما قاسوه ، وبالخصوص سيدهم وخاتمهم الذي قال : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ). ضمير انهن يعود الى الأصنام ، والمعنى ان كثيرا من الناس ضلوا بسبب عبادة الأصنام ، تماما كما تقول : المال أطغى فلانا أي انه طغى بسببه (فَمَنْ تَبِعَنِي) من ذريتي (فَإِنَّهُ مِنِّي) نسبا ودينا (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). من عصى ابراهيم (ع) فهو بريء منه ، حتى ولو كان أقرب الناس اليه ، لأن من عصاه فقد عصى الله ، ولكن ابراهيم حليم اوّاه كما وصفه الذي اختاره خليلا واصطفاه. ومن أجل ذلك لم يطلب العذاب للعصاة من ذريته وغير ذريته ، بل ترك أمرهم لله ومغفرته ورحمته .. ومن الواضح ان العقل لا يمنع من العفو عن المشركين ، لأن العذاب على الشرك حق لله ، ان شاء عذب ، وان شاء عفا ، ولا ضرر بالعفو على أحد. أما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فهو دليل سمعي ، ونحن نتكلم عن حكم العقل. أنظر تفسيرنا لهذه الآية في ج ٧ ص ٣٤٢.
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ). قال ابراهيم (ع) هذا حين ترك إسماعيل وأمه هاجر بمكة ، وهي واد مقفر لا ماء فيه ولا كلأ ، ولا شيء الا بيت الله تقام فيه الصلوات ، وتردد التلبيات ، ولهذه الغاية أسكن ابراهيم بعض أهله وذريته في هذا المكان المقفر المجدب .. ولكن الإنسان لا يحيا بالصلاة وحدها ، بل لا بد له من الخبز أيضا ، ولذا قال ابراهيم : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). وإذا لم يكن عند بيت الله زرع ولا ضرع فلتتوافد الناس عليه للعبادة أو التجارة ، ومعهم الخبز والفاكهة ، وعندها تأكل ذرية ابراهيم ويصلّون ويشكرون. قال موسى (ع) : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)