الأرض آنذاك .. فكيف يستجيبون لدعوتك ، والحال هذه؟ ولا يختص هذا الوصف بمن تخلّف عن غزوة تبوك ، فإن النفس تميل بطبعها إلى الراحة والمنفعة ، ولكن أهل الايمان يروضون أنفسهم بالتقوى ، فتستهين بكل شيء يرضي الله ورسوله. قال الإمام علي (ع) : أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه. وتقدم ما يتصل بذلك في ج ٢ ص ٣٢٣ عند تفسير الآية ٣٧ من سورة النساء.
(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ). هذا إخبار من الله لنبيه بأن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك قد أعدوا له عند رجوعه الأعذار والأيمان الكاذبة .. وبديهة ان صفة الكذب لا تنفك عن المنافق وإلا لم يكن منافقا (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) لأنهم أهلكوا دينهم بالكذب والنفاق (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في أعذارهم وايمانهم .. وقيل : لا يكذب إلا جبان ، ونعطف على الجبان من أهلكته المطامع.
(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ). حين دعا النبي (ص) الناس إلى الجهاد استأذن بعضهم بالتخلف ، وتعللوا بالمعاذير ، فأذن النبي لهم قبل أن يعلم صدقهم من كذبهم فيما اعتذروا به ، فعاتبه الله سبحانه على ذلك ، وقال له : كان الأولى أن تتريث في الاذن لهم حتى تنكشف حقيقتهم هذا ما يعطيه ظاهر الآية.
وتسأل : ان النبي (ص) معصوم عن الخطأ ، وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يستدعي وجود الذنب ، وكذلك الإنكار في قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟.
الجواب : ان العفو من الله لا يستدعي وجوب الذنب ، فكثيرا ما يكون تعبيرا عن ثوابه ورحمته ، وقد كان جميع الأنبياء يطلبون العفو منه تعالى .. أما الاستفهام الانكاري فالأمر فيه سهل ، حيث يصح في العمل المباح وغيره ، فتقول لصاحبك : لم فعلت هذا؟ وأنت لا تريه انه ارتكب منكرا ، وإنما تريد شيئا آخر ، والغرض هنا من عتاب الله لنبيه هو بيان كذب المنافقين في اعتذارهم ، وانه كان لمجرد الفرار من الجهاد ، وهذا الأسلوب أبلغ في الدلالة على نفي العذر من كل أسلوب .. هذا ، إلى أن سبحانه قال في الآية ١١٧ من هذه السورة : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ). وإذا كانت التوبة لا تدل وجود الذنب فبالأولى العفو والاستفهام.