وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ليس هذا تقسيما للناس على أساس البداوة والحضارة ، وتفضيلا للحضري على البدوي ، كيف؟. وقد أخبر سبحانه في الآية الآتية ان قوما من الأعراب قد أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم .. ولو كانت البداوة إثما بما هي لحرمها الله ، تماما كما حرم الظلم والبهتان .. ان القرآن يقسم الناس على أساس التقوى أي الايمان بالله والعمل الصالح ، وقد بيّن هذه الحقيقة وأكدها بشتى الأساليب ، بل هي الغاية الأولى من انزال القرآن ودعوته وتعاليمه وشريعته.
والآية التي نحن بصددها تومئ الى ذلك ، فإن قوله تعالى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا الخ .. يشعر بأن سبب الذم هو الكفر والنفاق ، والجهل بأحكام الله التي أنزلها على نبيه .. وليست البداوة بما هي سببا للذم .. أجل ، ان حياة البادية وبعدها عن أسباب الحضارة والمعرفة توجب غلظة الطبع وجفوته ، والتجاوز عن الحد .. فالذنب ـ اذن ـ هو ذنب الظروف والبيئة .. وليس ذنب البدوي المسكين. وفي بعض الروايات : «تفقهوا في الحلال والحرام وإلا فأنتم أعراب» أي مثيلهم في الجهل والبعد عن الحضارة ، وفي رواية ثانية : «من لم يتورع في دين الله ابتلاه بسكنى الرساتيق» أي مع أهل الجهل والغلظة.
وبعد هذا التمهيد نعود إلى الآية. والمعنى المقصود منها ان في أهل البادية كفارا ومنافقين ، تماما كما في أهل الحضر ، ولكن كفار البادية ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم المتحضرين. هذا محصل المعنى الظاهر من الآية ، ونعطف عليه وإذا كان السبب الموجب هو الجهل والطبع الغليظ فينبغي أيضا أن يكونوا أشد إيمانا إذا آمنوا ، وإخلاصا إذا أخلصوا ، لأن السبب واحد.
وبهذه المناسبة نشير إلى ما جاء في ميزان الشعراني باب الشهادات : «ان الحنابلة لا يقبلون شهادة البدوي على الحضري مطلقا ، والمالكية يقبلونها في الجراح والقتل خاصة ، ولا يقبلونها فيما عدا ذلك من الحقوق» .. وقد فهمنا وجه الدليل لقول من قال : لا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم ، أما مساواة البدوي المسلم لغير المسلم في الشهادة فلا نعرف لها وجها .. قال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ـ ٢ الطلاق» .. ولم يقل من أهل الحضر .. ان العبرة من قبول الشهادة بالعدالة ، لا بالحضارة وغيرها.