سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [يونس ـ ٣] ، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السّموات والأرض والتدبير لهما ، فلا تكون إلا في أمور التكوين ويستفاد من الآية أنّ الشفاعة بهذا المعنى هي من جملة تدبير الخلق وتنظيم النظام الأحسن الربوبي ، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ـ ٢٥٥] ، فهذه هي الشفاعة التكوينية أي توسيط العلل والأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب وخالق الأرض والسّماء وبين خلقه المفتقر إليه.
الثاني : الشفاعة لديه تعالى بمعنى رفع العقاب عن عباده العاصين أو زيادة الثواب لعباده المطيعين ، فإنّ الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين مبلّغين صادعين بالحق وأنزل معهم الكتاب المشتمل على الأحكام التشريعية الراجعة إلى مصالح العباد ووضع الثواب للمطيعين والعقاب على العاصين وأقام الحجة في العباد وأتمها عليهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال ـ ٤٢] ، ولكنّه تعالى رأفة بخلقه ورحمة بعباده جعل الشفاعة لنفسه ، وهو من شؤون رحمته المطلقة التي وسعت كلّ شيء وهذه هي الشفاعة في الجعل والتشريع.
وبعد كون أصل الشفاعة بيده وتحت استيلائه وقدرته ، له تبارك وتعالى أن يجعلها لمن يشاء من خلقه ويريد وفق الحكمة البالغة والعلم الأتم ، وتدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ـ ١٠٩] ، وقال تعالى : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم ـ ٢٦] ، وإطلاق قوله تعالى : (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ـ ٢٨] ، يدل على أنّه لا بد في الشفاعة من إذنه في المشفوع له والشفيع. وقال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف ـ ٨٦].
والمستفاد من جميع ذلك : أنّ الشفاعة بجميع جهاتها وخصوصياتها لا بد أن تكون تحت اختياره وإرادته كما تدل على ذلك القاعدة العقلية أيضا