إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية.
فالعلم لله تعالى وحده وهو يختص به عزوجل وما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه ومشيئته وإرادته وهو تعالى محيط بما سواه وقائم على خلقه ولا تتم قيّوميته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية والاخروية ، ولا يختص ذلك بذوي العقول بل لطفه وعنايته شاملتان لجميع مخلوقاته فهي مستفيضة من فيضه العليّ ، ويدل على ذلك جملة من الآيات المباركة قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل ـ ٦٨] ، وهي تحت إرادته وتربيبه العظمى ومن مظاهر فيضه وإحسانه وآثار رحمته وامتنانه ذاتا وصفة حدوثا وبقاء فجميع نظامه التكويني والتشريعي ينبعث عن نظامه الرّبوبي ، وما سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزوجل في أصل الحدوث لا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزوجل وهو قائم بإرادته وتدبيره الأتم وحكمته البالغة ، وفي كلّ آن له تعالى ربوبية خاصة وشأن غير ما في الآن السابق قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرّحمن ـ ٢٩] ، ومن كان كذلك يكون جميع ما سواه كرسيّا له ، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهرا من مظاهر القدرة والاقتدار والتدبير والارادة.
فالآية الشريفة تدل على تمام تدبيره وكمال إحاطته بمخلوقاته وهي عاجزة عن الإحاطة بخالقها وصفاته العليا إلا بقدر ما يفيضه عليها ويرشدها إلى الكمال المطلوب.
قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).
مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع والمجتمع ومنه الكرّاسة ، والكرسي ـ في العرف ـ : اسم لما يقعد عليه ، ولوحظ فيه المعنى اللغوي أيضا لاجتماع الحال والمحل أو اجتماع الأجزاء فيه ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام ، والثاني قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [ص ـ ٣٤] ، ويكنّى به عن الملك.
والمراد به في المقام : اقتداره التام وسعة سلطانه ، وهو تشبيه بليغ بين