أما الملك الذي آتاه الله تعالى إبراهيم (عليهالسلام) فهو مالكية حقايق الأمور وتسلطه على الممكنات بحيث يقلب الجوهر إلى آخر ويبدل الصورة إلى اخرى بإذن الله تعالى وهو باق ببقاء الله عزوجل ولا مناسبة بين الملكين الا نسبة العدم إلى الوجود.
ومن العجيب أن يكون الثاني مبتلى بالأول دائما كابتلاء إبراهيم (عليهالسلام) بنمرود ، وموسى (عليهالسلام) بفرعون ، ومحمد (صلىاللهعليهوآله) بالطواغيت من أهل عصره وليس ذلك الا لأجل كمال الأول وخسّة الثاني.
وجملة (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في موضع التعليل يصح أن تكون تعليلا للمحاجّة يعني إنّما حاج نمرود إبراهيم لأنّه رأى نفسه ملكا فأورثه الكبر والإعجاب فحمله على الغرور ، ودفعه على المحاجة. ولم يعرف أنّ الذي أعطاه الملك يقدر على أن ينزعه عنه.
ويحتمل أن تكون الجملة في مقام بيان كفران نمرود للنعمة التي أنعم الله تعالى عليه في الدنيا ، فهو بدل أن يؤمن بالله تعالى ويشكره عليها ادعى الربوبية لنفسه وخاصم نبيّ الله عزوجل فيها ، ومثل ذلك كثير في المحاورات قال الشاعر :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر |
|
وحسن فعل كما يجزي سنمّار |
ويصح إرجاع الضمير في قوله تعالى : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) إلى إبراهيم (عليهالسلام) فيكون المراد بالملك الملك المعنوي لا الملك الظاهري الإضافي ، ويدل عليه قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء ـ ٥٣] ، وبهذا الملك أي النبوة التامة خاصم إبراهيم (عليهالسلام) نمرود الملك الظاهري وحاجّه وأبهته لا أن يكون قد نازعه في ملكه الظاهري فإنّ مقام النبوة أعظم وأكبر من هذا الملك قطعا.