ومنها : أنّ الله عزوجل حكيم ، ولا يكون الحكيم ولا يوصف بالحكمة إلاّالذي يحظر الفساد ، ويأمر بالصلاح ، ويزجر عن الظلم ، وينهى عن الفواحش ، ولا يكون حظر الفساد والأمر بالصلاح والنهي عن الفواحش إلاّ بعد الإقرار بالله ومعرفة الآمر والناهي ، فلو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفة لم يثبت أمر بصلاح ولا نهي عن فساد ؛ إذ لا آمر ولا ناهي.
ومنها : أنّا قد وجدنا الخلق قد يفسدون باُمور باطنة مستورة عن الخلق ، فلولا الإقرار بالله وخشيته بالغيب لم يكن أحد إذا خلا بشهوته وإرادته يراقب أحداً في ترك معصية وانتهاك حرمة وارتكاب كبيرة ، إذا كان فعله (١) ذلك مستوراً عن الخلق غير مراقب لأحد ، فكان يكون في ذلك هلاك الخلق أجمعين ، فلم يكن قوام الخلق وصلاحهم إلاّ بالإقرار منهم بعليم خبير ، يعلم السرّ وأخفى ، آمر بالصلاح ، ناه عن الفساد ، ولا تخفى عليه خافية ؛ ليكون في ذلك انزجار لهم عمّا يخلون به من أنواع الفساد.
فإن قال قائل : فلِمَ وجب عليكم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة ؟
قيل له : لأنّه لمّا لم يكتف في خلقهم وقواهم (٢) ما يثبتون به لمباشرة
__________________
عدم تحقّق الفعل المأمور به وعدم ترك الفعل المنهي عنه ، وفي ذلك فساد الخلق وعدم بقائهم ، وفي الثاني المحذور عدم تحقّق نفس الأمر والنهي اللّذين هما مقتضى ذات الحكيم وحكمته ، فلو فرض حصول الأوامر ، وترك النواهي بدون الأمر والنهي أيضاً لتمّ الوجه الثاني بخلاف الأوّل ، والفرق بين الأوّل والثالث هو أنّ الأوّل جار في الاُمور الظاهرة ، بخلاف الثالث ، فإنّه مخصوص بالاُمور الباطنة ، فلو فرض للناس حياء يردعهم عن إظهار الفواحش والفساد لتمّ الوجه الثالث أيضاً بدون الأوّل ، وتأمّل ، والله يعلم . (م ق ر رحمهالله ).
(١) في «ج ، ل ، ح ، ش» : فعل.
(٢) في «ج ، ل ، ش ، س» : قوامهم.