الصانع تعالى حتّى يكلّمهم ويشافههم ؛ لضعفهم وعجزهم ، وكان الصانع متعالياً عن أن يرى ويباشر ، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً لم يكن بُدٌّلهم من رسول بينه وبينهم معصوم ، يؤدّي إليهم أمره ونهيه وأدبه ، ويقفهم على مايكون به اجتلاب منافعهم ، ودفع مضارّهم ؛ إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارّهم ، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ، ولاسدُّ حاجة ، ولكان يكون إتيانه عبثاً لغير منفعة ولا صلاح ، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كلّ شيء.
فإن قال قائل : ولِمَ جعل اُولي (١) الأمر ، وأمر بطاعتهم ؟
قيل : لعلل كثيرة :
منها : أنّ الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود واُمروا أن لا يتعدّوا تلك الحدود لما فيه من فسادهم ، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيها أميناً يأخذهم بالوقت عند ما اُبيح لهم ، ويمنعهم من التعدّي على ماحظر (٢) عليهم ؛ لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها : أنّا لا نجد فِرقة من الفِرَق ، ولا ملّة من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس ، لما لابدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لابدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به ،
__________________
(١) ورد في حاشية «ج ، ل» : على سبيل الحكاية ، أو يقرأ : جعل مبنيّاً للفاعل. (م ق ر رحمهالله ).
(٢) في حاشية «ل» : أي : حرم.