وتحقيق ذلك في الشفاء حيث قال : « واجب الوجود عقل محض ؛ لأنّه ذات مفارقة للمادّة من كلّ وجه ، وقد عرفت أنّ السبب في أن لا يعقل الشيء هو المادّة وعلائقها ، لا وجوده. وأمّا الوجود الصوريّ ، فهو الوجود العقليّ وهو الوجود الذي إذا تقرّر في الشيء صار للشيء به عقل ، والذي يحتمل نيله هو عقل بالقوّة ، والذي ناله العقل بعد القوّة هو العقل بالفعل على سبيل الاستكمال ، والذي هو له ذاته هو عقل بذاته ، ولذلك (١) هو معقول محض ؛ لأنّ المانع للشيء أن يكون معقولا هو أن يكون في مادّة وعلائقها وهو المانع عن أن يكون عقلا ، وقد تبيّن لك هذا ، فالبريء عن المادّة والعلائق ، المتحقّق بالوجود المفارق هو معقول لذاته ، ولأنّه عقل بذاته وهو أيضا معقول بذاته ، فهو معقول ذاته ، فذاته عقل وعاقل ومعقول لا أنّ هناك أشياء متكثّرة ؛ وذلك لأنّه بما هو هويّة مجرّدة عقل ، وبما يعتبر له أنّ هويّته المجرّدة لذاته ، فهو معقول لذاته ، وبما يعتبر له أنّ ذاته له هويّة مجرّدة ، فهو عاقل ذاته ؛ فإنّ المعقول هو الذي ماهيّته المجرّدة لشيء ، والعاقل هو الذي له ماهيّة مجرّدة لشيء ، وليس من شرط هذا الشيء أن يكون هو أو آخر ، بل شيء مطلقا والشيء مطلقا أعمّ من هو أو غيره ، فالأوّل باعتبارك أنّ له ماهيّة مجرّدة لشيء هو عاقل ، وباعتبارك أنّ ماهيّته المجرّدة لشيء هو معقول ، وهذا الشيء هو ذاته ، فهو عاقل بأنّ له ماهيّته المجرّدة التي لشيء هو ذاته ، ومعقول بأنّ ماهيّته المجرّدة هي لشيء هو ذاته ، وكلّ من تفكّر قليلا علم أنّ العاقل يقتضي شيئا معقولا ، وهذا الاقتضاء لا يتضمّن أنّ ذلك الشيء هو أو آخر (٢).
ثمّ قال : فقد فهمت أنّ نفس كونه معقولا وعاقلا لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ، ولا اثنين في الاعتبار أيضا ؛ فإنّه ليس تحصيل الأمرين إلاّ اعتبار أنّ ماهيّة
__________________
(١) في « الشفاء » : « وكذلك » بدل « ولذلك ».
(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.