العلم ، وما ذكر في الكتب لم يتنقّح لي ، فوقعت لي ليلة من الليالي خلسة في شبه نوم لي فإذا أنا بلذّة غاشية ، وبرقة لامعة ، ونور شعشعانيّ مع تمثّل شبح إنسانيّ ، فرأيته فإذا هو غياث النفوس وإمام الحكمة ، المعلّم الأوّل على هيئة أعجبتني ، وأبّهة أدهشتني ، فتلقّاني بالترحيب والتسليم حتّى زالت دهشتي ، وتبدّلت بالأنس وحشتي ، فشكوت إليه من صعوبة هذه المسألة ، فقال : ارجع إلى نفسك تنحلّ لك.
فقلت : وكيف؟ فقال : إنّك مدرك لنفسك ، فإدراكك لذاتك بذاتك ، أو غيرها؟ فيكون لك إذن قوّة أخرى ، أو ذات تدرك ذاتك ، والكلام عائد وظاهر استحالته ، وإذا أدركت ذاتك بذاتك ، أباعتبار أثر في ذاتك؟ فقلت : بلى.
قال : فإن لم يطابق الأثر ذاتك ، فليس صورتها ، فما أدركتها ، فقلت : فالأثر صورة ذاتيّ ، قال : صورتك لنفسك مطلقة ، أو متخصّصة بصفات أخرى؟ فاخترت الثاني ، فقال : كلّ صورة في النفس هي كلّيّة وإن تركّبت أيضا من كلّيّات كثيرة ، فهي لا تمنع الشركة لنفسها ، وإن فرض منعها تلك فلمانع آخر ، وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها ، فليس هذا الإدراك بالصورة.
فقلت : أدرك مفهوم أنا فقال : مفهوم أنا من حيث هو مفهوم أنا لا يمنع وقوع الشركة فيه ، وقد علمت أنّ الجزئيّ ـ من حيث هو جزئيّ لا غير ـ كلّيّ « وهذا » و « أنا » و « نحن » و « هو » لها معان كلّيّة من حيث مفهوماتها المجرّدة دون إشارة جزئيّة.
فقلت : فكيف إذن؟
فقال : فلمّا لم يكن علمك بذاتك بقوّة غير ذاتك ، فإنّك تعلم أنّك أنت المدرك لذاتك لا غير ، ولا بأثر غير مطابق ، ولا بأثر مطابق (١) ، فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.
__________________
(١) في « شوارق الإلهام » : « لا بأثر مطابق ولا بأثر غير مطابق ».