فيكون الفرق بين التصوّر الأوّل والثاني ظاهرا ؛ فإنّ الأوّل كأنّه شيء قد أخرجته من الخزانة وأنت تستعمله ، والثاني كأنّه شيء لك مخزون متى شئت استعملته.
والثالث يخالف الأوّل بأنّه ليس شيئا مرتّبا في الفكر البتّة ، بل هو مبدأ لذلك مع مقارنته لليقين ، ويخالف الثاني بأنّه لا يكون شيئا معرضا عنه ، بل منظورا إليه نظرا ما بالفعل يقينا ؛ إذ يتخصّص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون.
فإن قال قائل : إنّ ذلك علم أيضا بالقوّة ولكن قوّة قريبة من الفعل ، فذلك باطل ؛ لأنّ لصاحبه يقينا بالفعل حاصلا لا يحتاج إلى أن يحصّله بقوّة بعيدة أو قريبة ، فذلك اليقين إمّا (١) لأنّه متيقّن أنّ هذا حاصل عنده إذا شاء علمه ، فيكون تيقّنه بالفعل بأنّ هذا حاصل بالفعل تيقّنا به بالفعل ؛ فإنّ الحصول حصول لشيء ، فيكون هذا الشيء الذي نشير إليه حاصلا بالفعل ؛ لأنّه من المحال أن يتيقّن أنّ المجهول بالفعل معلوم عنده مخزون [ ... ] (٢) فهو بهذا النوع البسيط معلوم عنده ، ثمّ يريد أن يجعله معلوما بنوع آخر.
ومن العجائب أنّ هذا المجيب حين يأخذ في تعليم غيره تفصيل ما هجس في نفسه دفعة يكون مع ما يعلّمه يتعلّم العلم بالوجه الثاني ، فيترتّب تلك الصور فيه مع ترتيب ألفاظه ، فأحد هذين هو العلم الفكري الذي إنّما يستكمل به تمام الاستكمال إذا ترتّب وتركّب. والثاني هو العلم البسيط الذي ليس من شأنه أن يكون له في نفسه صورة بعد صورة لكن هو واحد عنه يفيض الصور في قابل الصور ، فذلك علم فاعل للشيء الذي نسمّيه علما فكريّا ومبدأ له وذلك هو للقوّة العقليّة المطلقة من النفس المشاكلة للعقول الفعّالة. وأمّا التفصيل ، فهو للنفس من حيث هو نفس ، فما لم يكن له ذلك ، لم يكن له علم نفسانيّ (٣). انتهى.
__________________
(١) كلمة « إمّا » غير موجودة في « الشفاء ».
(٢) إشارة إلى زيادة وردت في « الشفاء » ولم ترد في « شوارق الإلهام ».
(٣) « الشفاء » الطبيعيات ٢ : ٢١٣ ـ ٢١٥ ، الفصل السادس من المقالة الخامسة من الظنّ السادس.