لا يصحّ إلاّ في الأوّل. وأمّا ما يقال ـ أنّا إذا عقلنا شيئا فإنّا نصير ذلك المعقول ـ فهو محال ؛ فإنّه يلزم أن نكون إذا عقلنا البارئ نتّحد معه ونكون هو ، فهذا الحكم لا يصحّ إلاّ في الأوّل ؛ فإنّه يعقل ذاته ، وذاته مبدأ المعقولات ، فهو يعقل الأشياء من ذاته ، فكلّ شيء حاصل له حاضر عنده معقول له بالفعل (١).
وقال في المبدأ والمعاد : وليس كون الكلّ عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكلّ عنه لا لمعرفة ولا رضى منه ، وكيف يصحّ هذا وهو عقل محض يعقل ذاته؟ فيجب أن يعقل أنّه يلزمه وجود الكلّ عنه ؛ لأنّه لا يعقل ذاته إلاّ عقلا محضا ومبدأ أوّلا. وتعقّل وجود الكلّ عنه على أنّه مبدؤه هو ذاته لا غير ذاته ؛ فإنّ العقل والعاقل والمعقول فيه واحد ، وذاته راضية لا محالة بما عليه ذاته ، ولكن تعقّله الأوّل وبالذات أنّه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود ، فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون ، لا عقلا خارجا عن القوّة إلى الفعل ، ولا عقلا منتقلا من معقول إلى معقول ؛ فإنّ ذاته بريئة عمّا بالقوّة من كلّ وجه على ما أوضحنا قبل ، بل عقلا واحدا معا ، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود أنّه كيف يمكنه ، وكيف يكون وجود الكلّ على مقتضى معقولة ؛ فإنّ الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها ـ على ما علمت ـ علم وقدرة وإرادة.
وأمّا نحن ، فنحتاج في تنفيذ ما نتصوّره إلى قصد وإلى حركة وإلى إرادة ، وهذا لا يحسن فيه ، ولا يصحّ ؛ لبراءته عن الاثنينيّة (٢). انتهى.
فالشيخ مع تفطّنه لذلك ذهب إلى القول بالعلم الصوري ؛ تحقيقا لأمر العناية وتحصيلا للعلم الذي هو سبب النظام ومقدّم عليه ؛ فإنّ العلم بالنظام وأمر العناية إنّما يتمّ بالعلم التفصيليّ ولا يكفي الإجماليّ فقط ، وأيضا فرارا من الشناعة الواردة على
__________________
(١) نفس المصدر.
(٢) « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٧٥ ـ ٧٦.