ولمّا رأوا أنّ النظام الموجود هاهنا في العالم وأجزائه هو صادر عن علم متقدّم عليه ، قضوا أنّ هذا العقل والعلم هو مبدأ العالم الذي أفاده أن يكون موجودا ، وأن يكون معقولا.
وقال أيضا في موضع آخر : والمحقّقون من الفلاسفة لا يصفون علمه تعالى بالموجودات لا بكلّيّ ولا بجزئيّ ، وذلك أنّ العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول ، والعقل الأوّل هو عقل محض وعلّة ، فلا يقاس علمه على العلم الإنسانيّ ، فمن جهة ما لا يعقل غيره من حيث هو غير هو علم منفعل ، ومن جهة ما يعقل الغير من حيث هو ذاته هو علم فاعل.
وتلخيص مذهبهم أنّهم لمّا وقفوا بالبراهين على أنّه لا يعقل إلاّ ذاته ، فذاته عقل ضرورة ، ولمّا كان العقل بما هو عقل إنّما يتعلّق بالموجود لا بالمعدوم وقد قام البرهان على أنّه لا موجود إلاّ هذه الموجودات التي نعقلها نحن ، فلا بدّ أن يتعلّق علمه بها ، وإذا وجب أن يتعلّق علمه بهذه الموجودات ، فإمّا أن يتعلّق بها على نحو تعلّق علمنا بها ، وإمّا أن يتعلّق بها على وجه أشرف من جهة تعلّق علمنا بها ، وتعلّق علمه بها على نحو تعلّق علمنا بها مستحيل ، فوجب أن يكون تعلّق علمه بها على نحو أشرف ووجود أتمّ لها من النحو الذي تعلّق علمنا بها ؛ لأنّ العلم الصادق هو الذي يطابق الوجود ، فإن كان علمه أشرف من علمنا ، فعلم الله يتعلّق بالموجود بجهة أشرف من الجهة التي يتعلّق علمنا بها.
فللموجود إذن وجودان : وجود أشرف ، ووجود أخسّ ، والوجود الأشرف هو علّة الوجود الأخسّ ، وهذا هو معنى قول القدماء : إنّ البارئ تعالى هو هذه الموجودات كلّها وهو المنعم بها والفاعل لها ؛ ولذلك قال رؤساء الصوفيّة : لا هو إلاّ هو ، ولكن هذا كلّه هو من علم الراسخين في العلم ، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلّف الناس اعتقاد هذا ، ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي ، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم ، كما أنّ من كتمه عن أهله فقد ظلم ، فأمّا أنّ الشيء الواحد له