وثانيهما : الكائن بهذا الكون ، وهو المراد بالماهيّة ، فالمعبّر عنه بمنزلة ذات الشيء الموجود ؛ فإنّ الوجود بهذا المعنى يرادف الذات ، والمعبّر به من عوارضه ، ولفظ الوجود اسم مشترك بين هذين المعنيين. وما تواطئوا عليه ـ من كون الوجود مقولا بالتشكيك ـ هو الوجود بهذا المعنى لا الوجود الانتزاعيّ ؛ إذ لا معنى لكون الكون المصدريّ قابلا للتشكيك ، بل هو في الكلّ على السواء كما لا يخفى على الخبير ، فلنكتف هاهنا بهذا القدر من البيان ، ومن أراد الاستقصاء فليراجع ما حقّقناه في تضاعيف مباحث الوجود ، وفي نيّتنا أن نأتي برسالة مفردة لتمام التحقيق فيه بحيث ترتفع عنه جميع الأوهام والشكوك إن شاء الله العزيز.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الوجود العلّة أشدّ لا محالة من الوجود المعلول.
والمراد من الشدّة هو كون الشيء بحيث ينتزع منه أمثال شيء آخر ، فيكون الشيء الأوّل هو الشديد ، والثاني هو الضعيف ، فالأشدّ ما كأنّه يشتمل على عدّة أمثال الأضعف ، فالوجود العلّة ـ لكونه أشدّ من الوجود المعلول ـ يكون مشتملا على الوجود المعلول مع زيادة ، فالعلّة ـ التي هي مبدأ للعلل كلّها وينتهي إليها جميع المعلولات ـ كأنّها تشتمل على المعلولات كلّها ، فهي المعلولات كلّها بعنوان الوحدة ، وإذا صدرت عنها المعلولات وتباينت وتمايز بعضها عن بعض ، كانت جميعها هي العلّة بعنوان الكثرة من دون أن ينتقص من العلّة شيء ؛ إذ المعلول ليس جزءا من العلّة وبعضا منها حقيقة ، بل إنّما هو أثر منها ، وظلّ لها ، وما من المعلول في العلّة إنّما هو أصله وسنخه ؛ إذ فرق بين أن يفيض من شيء شيء ، وبين أن يقسّم شيء إلى شيء ، ومفاد العلّيّة والتأثير إنّما هو الأوّل لا الثاني ، فالوجود الواجبيّ يشتمل على جميع وجودات الممكنات التي هي عبارة عن ذواتها ، لا أقول : عن ماهيّاتها إذ فرق بين الماهيّة والذات على ما عرفت ، فعلمه تعالى بذاته عين العلم بجميع ذوات الأشياء ، وهذا هو المراد من كون ذاته تعالى علما إجماليّا بالأشياء وعقلا بسيطا لها على معنى ما حصّلناه من كلام الشيخ كما مرّ.