ولو لم يكن للعموم كان قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة في قوّة الجزئيّة ، وكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار ، ونحن نقول بموجبة جزئيّة ، حيث لا يراه الكافرون ، بل نقول : تخصيص البعض بالنفي يدلّ على الإثبات للبعض الآخر ، فالآية حجّة لنا لا علينا.
سلّمنا عموم الأبصار ، وأنّ مدلول الكلام عموم السلب لا سلب العموم ، فلا نسلّم عمومه في الأحوال والأوقات ، فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا ؛ جمعا بين الأدلّة.
سلّمنا ولكن لا نسلّم أنّ الإدراك بالبصر هو الرؤية أو لازم لها ، بل رؤية مخصوصة ، وهو أن يكون على وجه الإحاطة بجوانب المرئيّ ؛ إذ حقيقته النيل والوصول مأخوذا من أدركت فلانا : إذا لحقته ، ولهذا يصحّ : رأيت القمر وما أدركه بصري ؛ لإحاطة الغيم به ، فلا يصحّ : أدركه بصري وما رأيته ، فيكون أخصّ من الرؤية ، ملزوما لها بمنزلة الإحاطة من العلم ، فلا يلزم من نفيه نفيها ، أو نقول (١) : الإدراك بالبصر هو الرؤية بالجارحة المخصوصة ، فلا يلزم من نفيه نفي الرؤية مطلقا ؛ إذ يمكن أن يرى لا بتلك الجارحة المخصوصة ، كما هو المدّعى ؛ فإنّ المثبتين لرؤية الله تعالى يدّعون أنّ الحالة المخصوصة التي تحصل لنا بالبصر في الدنيا ـ وتسمّى رؤية ـ تحصل لنا تلك الحالة بعينها بالنسبة إليه تعالى من غير توسّط تلك الجارحة.
وثانيهما : أنّه تعالى يمدح بكونه لا يرى فإنّه تعالى ذكره في أثناء المدائح ، وما كان ـ من الصفات ـ عدمه مدحا كان وجوده نقصا ، يجب تنزيه الله تعالى عنه ، فظهر أنّه تمتنع رؤيته ، وإنّما قلنا : من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام ؛ فإنّ الأوّل فضل. والثاني عدل ، وكلاهما كمال.
والجواب : أنّ ما ذكرتم حجّة لنا على أنّ المنفيّ ليس هو الرؤية بالمعنى المتنازع
__________________
(١) قسيم لقوله : « بل رؤية مخصوصة ».