ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون أنموذجات (١) من الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ تذكرتها في تلك المرابع ، التي هي مراتع النواظر ، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر ، والبساتين التي إذا أخذت بدائع زخارفها ، ونشرت طرائف مطارفها ، طوى لها الديباج الخسرواني ، ونفى معها الوشي الصنعاني (٢) ، فلم تشبه إلا بشيمه ، وآثار قلمه ، وأزهار كلمه ، تذكرت سحراً ونسيماً ، وخيراً عميماً ، وارتياحاً مقيماً ، وروحاً وريحاناً ونعيماً.
وكثيراً ما أحكي للإِخوان والأصدقاء : أني استغرقت أربعة أشهر هناك بحضرته ، وتَوَفَّرْتُ على خِدْمتِه ، ولازمْتُ في أكثر أوقات الليل والنهار عَالِي مَجْلِسهِ ، وتعطَّرْتُ عند ركوبه بغبار موكبه.
فبالله يميناً (٣) قد كنتُ غنياً عنها (٤) ، لو خِفْتُ حِنْثاً فيها ، أنّي ما أنكرتُ طَرَفاً من أخلاقهِ ، ولم أُشَاهِدْ إلا مجداً وشرفاً من أحواله وما رأيته اغتابَ غائباً ، أَوْ سَبَّ حَاضِراً ، أَوْ حَرَم سَائِلاً ، أو خَيَّب آمِلاً ، أَوْ أَطَاعَ سُلْطَانَ الغَضَبِ والحَرْدِ ، أو تَصَلَّى بنار الضَّجَر في السَّفَرِ ، أو بَطَسَ بَطْشَ المتجبِّر ، وما وَجَدْتُ المآثر إلا ما يتعاطاه ، ولا المآثِمَ إلا ما يَتَخَّطاهُ ، فعوَّذْتُهُ بالله ، وكذلك الآن ، من كل طَرْفٍ عَائِنٍ ، وَصَدْرٍ خَائِنٍ.
هذا ، ولو أعارتني خُطَبَاءُ إياد (٥) ألسنتها ، وكتاب العراق أيديها في وصف أَيَادِيه ، التي اتَّصَلَتْ عندي كاتِّصالِ السُّعُودِ ، وانتظمت لَدَيَّ فِي حَالَتَي حُضُورِي وَغَيْبَتِي كانتظامِ العُقُود. فَقَلْتُ في ذكرها طالباً أَمَدَ الإِسْهَابِ ، وكَتَبْتُ في شُكْرِها مَادًّا أَطْنَابِ الإِطْنَابِ ، لَمَا كنت بعد الاجتهاد إلا مَاثِلاً في جانب القُصُور ، متأخراً عن الغرض المَقْصُود ، فكيف وأنا قاصِرٌ سَعْيَ البَلَاغة ، قَصِيرُ بَاعِ الكتابة.
__________________
(١) بهامش ( ح ) : « أنموذجات : عيون الشيء وخياره ، والأنموذج الطائفة من الشيء ، وقيل : المثال كالمثال من العلم ».
(٢) في ( ح ) : لاسكنداني ، تحريف.
(٣) في ( ط ) : أقسم يميناً.
(٤) في ( ط ) : عنها غنياً ، وبعدها في ( ط ) العبارة ، ( وما كنت أُوليها ).
(٥) بإزائه في ( ح ) : قبيلةٌ من العرب.
وهي قبيلة اشتهرت بالفصاحة ، ومن أشهر خطبائها قسُّ بن سَاعِدةَ الإِيادي.