وعلى ذلك فقد صَدِيَ فَهْمِي مع بُعْدٍ كان عن حَضْرَتِهِ ، وتكدَّرَ مَاءُ خَاطِري ، لتطَاوُلِ العَهْدِ بخدمته ، وتكسَّر في صَدْرِي ما عَجَزَ عن الإِفصاحِ به لِساني ، فكأن أبا القاسم الزعفراني (١) ، أحد شعراء العصر الذين أوردت ملحهم في كتاب « يتيمة الدهر » قد عبَّر عن قلبي بقوله (٢) :
لِيْ لِسَانٌ كَأَنَّهُ لِي مُعَادِي |
|
لَيْس يُنْبِي عَنْ كُنْهِ مَا فِي فُؤَادِي |
حَكَمَ اللهُ لِيْ عَلَيْهِ فَلَوْ أُنْ |
|
صِفَ قَلْبِي عَرَفْتُ قَدْرَ وِدَادِي |
فإلى من جَمَّلَ الزَّمَانَ بمجدِهِ ، وشَرَّفَ أَهْلَ الآدَابِ بِمُنَاسَبِةِ طَبْعِهِ ، ونظرَ لِذَوِي الفَضْلِ بامتداد ظِلِّهِ ، ودَاوَى أَحْوَالَهُم بِطِبِّ كَرَمِهِ ، أَرْغَبُ في أن يَجْعَلَ أيامَهُ المسعودَة أَعْظم الأَيَّامِ السَّالِفِةِ يُمْناً عليه ، ودُونَ الأَيَّامِ المُسْتَقْبَلَةِ فِيما يُحِبُّ ويُحِبُّ أَوْلياؤُهُ لَهُ وأَنْ يُديمَ إمْتَاعَهُ بظلِّ النَّعْمةِ ، ولِبَاسِ العَافِيَةِ ، وفِرَاشِ السَّلَامَةِ ومَرْكِبِ الغِبْطَةِ ، ويُطِيلَ بَقَاءَهُ مَصُوناً في نفسَه وأَعِزَّتِهِ ، متمكّناً مما يقتضيه عَالي هِمَّته ، وأَنْ يَجْمَعَ له المَدّ في العُمرِ إلى النَّفَاذِ في الأَمْرِ ، والفَوْزَ بالمَثُوبَةِ من الخالِق ، والشُّكْرَ من المخلوقين ، ويجمعَ آمالَهُ من الدنيا والدين.
وأعودُ ـ أدامَ اللهُ تَأْيِيدَ الأمير السَّيّد الأَوْحَد ـ لما افْتَتَحْتُ له رسالتي هذه ، فأقولُ : إنّي ما عدلت بمؤلفاتي (٣) إلى هذه الغاية ، عن اسْمِهِ وَرَسْمِهِ ، إخلالاً بما يَلْزَمُني مِنْ حَقِّ سُؤْدُدِهِ ، بل إجلالاً له عما لا أَرْضَاهُ للمُرورُ بِسَمْعِهِ ولَحْظِهِ ، وتَحَامِياً لِعَرْضِ (٤) بِضَاعَتِي المُزْجَاةِ على قُوَّةِ نَقْدِهِ ، وذَهَاباً بنفسي عن أنْ أُهْدِيَ للشَّمْسِ ضَوْءاً ، أَوْ أَنْ أَزِيدَ في القمرِ نُوراً ، أَوْ أَنْ أكون (٥) كجالبِ المسكِ إلى أرض التُّرْكِ (٦) ، والعُودِ إلى بلاد الهِنْد (٧) ، والعَنْبَرِ إلى البحر الأَخْضَرِ (٨).
__________________
(١) أبو القاسم الزعفراني ، من أهل العراق ، شيخُ شعراء العصر وبقية من تقدَّمُوه ، حَسَنُ الشِّعْر ، ولكلامه رَوْنَقٌ ونفاسَةٌ وأكثر شعره في الوصف والمديح ، ينظر فيه : اليتيمة ٣ / ٣٤٦ والمنتحل ١٣٩.
(٢) في لباب الآداب ٢ / ١١٩.
ورواية البيت الثاني :
سألتُ حبيبى الوصلَ منه دُعابَةً |
|
وأعْلَمُ أنَّ الوصل ليس يكونُ |
فمَاسَ دلالاً وابتهاجاً وقال لى |
|
برفقٍ مجيباً ( ما سألتَ يَهُونُ) |
وبنصهما السابق في اليتيمة ٣ / ٣٥٦.
(٣) في ( ط ) : « بمؤلفاتي هذه ».
(٤) في ( ط ) : ( بعرض ).
(٥) في ( ط ) : « فأكون ».
(٦) في ( ط ) : « أو ».
(٧) في ( ط ) : « الهنود ».
(٨) يعني بذلك المحيط الهندي ، وهو معروف بوجود حيوان العنبر فيه.