وممّا يؤيّد المطلوب بل يبيّنه : أنّ الشارع لم يقصد بقوله (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ـ أي شطر المسجد ـ تكليفا يتوقّف إحراز موضوعه على استعمال القواعد المبيّنة في علم الهيئة ونحوها ؛ ضرورة عدم ابتناء أمر القبلة على علم الهيئة ، بل ولا على العلائم المذكورة في كتب الأصحاب ؛ فإنّ أغلبها علائم تقريبيّة استنبطها الأصحاب بحسب ما أدىّ إليه نظرهم ، ولم يكن يتوقّف تشخيص القبلة في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام على معرفة هذه العلائم ، فالمقصود بهذا التكليف ليس إلّا التوجّه إلى جانبه على الوجه الذي يتمكّن كلّ مكلّف من تشخيصه عادة من غير حرج ومشقّة بالطرق المعهودة لدى العقلاء في تشخيص جانب سائر البلاد ، وأوضح سبيل يسلكه العقلاء في تشخيص سمت البلاد النائية إنّما هو السؤال عن المتردّدين إليها ، كالمكاري ونحوه ، ومن الواضح ـ الذي لا مجال للارتياب فيه ـ أنّ أخبار المتردّدين بجهتها ـ كغيرها من البلاد النائية خصوصا إذا كانت المسافة بينهما شهرا أو شهرين فما زاد ، كأقصى بلاد الهند ونحوها ـ لا تفيد عادة إلّا معرفة جهتها على سبيل الإجمال على وجه ربما تشتبه جهتها الخاصّة المحاذية لها في سمت عظيم ربّما يبلغ ربع الدائرة ، بل ربّما يتعذّر بالنسبة إلى نفس المتردّدين فضلا عمّن يعتمد على خبرهم تشخيصها في أقلّ من ذلك ؛ لما في طريقهم من الموانع الموجبة للخروج عن سمتها الحقيقي وحفظ نسبته ، فيمتنع أن يكلّفهم الله تعالى بالتوجّه إليها في أخصّ من هذا السمت فضلا عن أن يأمرهم بالمحاذاة الحقيقيّة.
__________________
(١) البقرة ٢ : ١٤٤.