الأرض هيبة وهزّا؟! .. هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (١)؟! .. أفناهم ـ والله ـ مفنى الأمم ، وأبادهم مبيد الرّمم ، وأخرجهم من سعة القصور ، وأسكنهم فى ضيق القبور ، تحت الجنادل والصخور ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ، لم ينفعهم ما جمعوا ، ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا .. أسلمهم الأحبّة والأولياء ، وجهزّهم الإخوان والأصفياء ، ونسيهم القرباء والبعداء ، فأنسوا وأبعدوا ، ولو نطقوا لأنشدوا (٢) :
مقيم بالحجون رهين رمس |
|
وأهلى راحلون بكل واد (٣) |
كأنّى لم أكن لهم حبيبا |
|
ولا كانوا الأحبّة فى السّواد (٤) |
فعوجوا بالسّلام فإن أبيتم |
|
فأوموا بالسّلام على بعاد (٥) |
وإن طال المدى وصفا خليل |
|
سوانا فاذكروا صفو الوداد (٦) |
وقيل : لا فخر فيما يزول ، ولا غنى فيما لا يبقى ، وهل أهل الدنيا إلّا كما قال الأول : قدر يغلى ، وكنيف (٧) يمتلى؟
__________________
(١) الرّكر : الصّوت الخفىّ .. وفى آخر آية من سورة «مريم» يقول الله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً).
(٢) الكلام السابق والشعر أيضا ورد فى كتاب أبى بكر الطّرطوشى «سراج الملوك» فى الباب الأول ، فى مواعظ الملوك.
(٣) الحجون : جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها .. والرّمس : القبر.
(٤) السّواد ، بفتح السين : يطلق على معظم الناس. وسواد الأمير : حاشيته ، وسواد القلب : حبّته. وبكسر السين : المسارّة ، وهى المناجاة ، يقال : سارّه مسارّة ، أى : ناجاه وأعلمه بسرّه.
(٥) فعوجوا بالسّلام : أى عودوا ومرّوا علينا من أجل السلام. ويقال : عاج بالمكان : أقام به ، أو ألم به ومرّ عليه ، وأوموا ، أى أشيروا.
(٦) صفا خليل ، أى : صدق صاحب فى إخائه ومودّته. وفى رواية : جفا خليل ، أى : نبا وساء خلقه ، وكلا المعنيين له وجه.
(٧) الكنيف : المرحاض.