حيث وضع في المكان اللائق به ، وقام بدور فعال في تنظيم الكون وسير الحياة ، ومن هذين الأساسين معا ، وهما الحس والعقل يتوصل حتما الى معرفة علة أولية ، تتصف بالحياة والعلم والقدرة والحكمة البالغة.
وسمعت أكثر من واحد يقول ـ وكأنه قد أتى بجديد ـ : كل الناس ، حتى الملحدين يعترفون بوجود علة أولى ، سوى أن المؤمنين يسمونها الله ، وغيرهم يسمونها المادة أو الطبيعة ، اذن ، الخلاف في التسمية فقط.
وهذا اشتباه وخطأ محض ، لأن المؤمنين يؤمنون بوجود علة أولى تدرك بالعقل لا بالحس ، وتوصف بالحياة والعلم والقدرة والحكمة والعدل ، أما غيرهم فيقولون : انها ترى بالعين ، وتلمس باليد ، وانها عمياء صماء ، فالفرق بين القولين أبعد مما بين الأرض والسماء.
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ). المراد بالقيام والقعود وعلى جنوبهم انهم في طاعة الله أبدا ودائما ، والمراد بالتفكر في خلق السموات والأرض انهم عارفون بالله سبحانه ، أما تضرعهم اليه عز وجل ان يقيهم عذاب النار فدليل التقوى والإيمان. قال الرازي :
«ان أصناف العبودية ثلاثة أقسام : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، فقوله تعالى : (يَذْكُرُونَ اللهَ) اشارة الى عبودية اللسان ، وقوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) اشارة الى عبودية الجوارح والأعضاء. وقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اشارة الى عبودية القلب والفكر والروح والإنسان ليس إلا هذا المجموع ، فإذا استغرق اللسان في الذكر ، والأعضاء في العمل ، والجنان في الفكر كان مستغرقا بجميع أعضائه في العبودية ـ ثم قال ـ فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق».
وليس من شك ان ذكر الله ، والإيمان به ، والتعبد له حسن .. ولكن أحسن من ذكره باللسان ، والقيام له في الليل ، والصيام في النهار هو العمل من أجل الإنسان ، والتضحية في سبيل الصالح العام .. وكل من طلب الكرامة عند الله دون هذه التضحية ، مع القدرة عليها فقد طلب الثمين من غير ثمن. وبمناسبة قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) نشير الى ان السنة قالوا : لا يجوز تعليل أفعال الله بشيء من الأغراض والعلل الغائية ، لأنه تعالى لا يجب