هذا كان الحكم فيهم القتل أو اظهار الإسلام ، وبه يكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم. وبكلمة ان الحكم خاص بمشركي الجزيرة آنذاك ، لسبب خاص ، وتقدم الكلام عن ذلك في ج ١ ص ٣٩٦ عند تفسير الآية ٢٥٦ من سورة البقرة.
(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ، أي العاشر من ذي الحجة ، وكان ابتداء الأشهر الأربعة بهذا اليوم من سنة تسع للهجرة ، وانتهاؤها في عاشر ربيع الآخر من سنة عشر ، وبعد هذه المهلة تعين مصير المشركين في الجزيرة العربية الإسلام أو القتل ، والخيار لهم بين هذين ، لأن الأوضاع في الجزيرة آنذاك كانت تستدعي ذلك كما أشرنا.
وذكر المفسرون ، ومنهم الطبري والرازي وابو حيان الأندلسي : انه لما نزلت سورة التوبة امر النبي (ص) عليا ان يذهب الى اهل الموسم في مكة ليقرأها عليهم ، فقيل له : لو بعثت بها أبا بكر. فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني. وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة ، وقال : ايها الناس اني رسول رسول الله إليكم ، وتلا الآيات.
(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). بعد أن امر نبيه ان يمهل المشركين اربعة أشهر ، حتى الذين نقضوا عهد المسلمين وغدروا بهم ـ بعد هذا استثنى سبحانه من المشركين قوما كان بينهم وبين المسلمين عهد المهادنة والمسالمة إلى أمد ، وحافظوا على هذا العهد ، ولم يغدروا ويخونوا ، استثنى هؤلاء ، ولم يمهلهم اربعة أشهر فقط ، بل امهلهم الى مدتهم ، مهما بلغت جزاء على وفائهم. وقال كثير من المفسرين «ان هؤلاء المشركين الأوفياء هم قوم من كنانة ، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر ، فأتم النبي (ص) لهم العهد.
وتدل هذه الآية على ان المعاهد لا يجب عليه الوفاء بالعهد إلا إذا وفي به الطرف الآخر نصا وفحوى ، فان اخل بشيء منه يعدّ خائنا وناقضا له ، ولا عهد لمن خان العهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وهم الذين يتقون نقض العهد ؛ وسائر المفاسد.