والخلاصة ان الله سبحانه لم يشأ بطريق من الطرق أن يكره الناس على الايمان لأنه لو شاء لسلب عنهم صفة الانسانية ، وكانوا أشبه بالحيوانات والحشرات ، لا يتحملون أية تبعة ، ولا يحاسبون على شيء ، ولكن شاء الله سبحانه أن يميز الإنسان عن كل مخلوق ، ويرتفع به الى حيث لا شيء فوقه الا خالق الكون والإنسان .. ومحال أن يبلغ هذه العظمة من غير جهد واختيار ، ولذا أمده الله بالقدرة والإدراك والوجدان ، والهداية الى النجدين ، ثم ترك له حرية الاختيار ، ليتحمل وحده تبعة ما يختار ، وتتحقق له بذلك الانسانية الكافية الوافية.
فجاءت النتيجة أن يختلف الناس في عقائدهم وآرائهم. أنظر فقرة «ليس بالإمكان أبدع مما كان» ج ٢ ص ٣٨٤ ، وفقرة «الاختلاف بين الناس» ج ١ ص ٣١٨ (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أي ان الناس اختلفوا فيما مضى ، وسيستمرون على هذا الاختلاف الى الأبد ، لأنه نتيجة حتمية لجعل الإنسان مخيرا غير مسير ، يتجه الى حيث شاء وأراد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) والمراد بالمرحومين الذين يتوخون الحقيقة بإخلاص وتجرد ، وهؤلاء لا يتطاحنون ويتناحرون على الحطام ، وإذا اختلفوا فإنما يختلفون في الرأي ووجهة النظر «واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية». وتعدد وجهات النظر شيء مفيد ، لأن القول القوي هو الذي يكون قويا رغم وجود الأقوال الأخرى.
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي أن الله خلقهم لرحمته وللتراحم فيما بينهم ، وانما تشملهم رحمته تعالى إذا طلبوا الحق وعملوا به لوجه الحق. وقال أبو بكر المعافري الأندلسي في أحكام القرآن : ان الله خلق الناس ليختلفوا فيما بينهم ، لا ليتراحموا ويتعاطفوا ، لأن الله بزعمه يريد الشر والكفر والمعصية ـ على حد تعبيره ـ ولا ينطق بهذا الا شر الناس وأجرأهم على الله ، لأن من يعبد ربا يريد الشر فبالأولى أن يكون هو مريدا له .. وان أراد الله الشر والكفر والمعصية كما يقول هذا المعافري فأي فرق بينه وبين من قال : «لأغوينهم أجمعين»؟ سبحانه وتعالى عما يصفه الظالمون.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي أنه تعالى يملأ جهنم بالعصاة أتباع الشيطان من الجن والإنس ، وفي هذا المعنى قوله تعالى خطابا لإبليس : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ـ ٨٥ ص».