أما المثال الذي ضربه سبحانه للمقارنة بين الحق والباطل فهو المقارنة بين المعادن تذاب في النار ليصاغ منها الحلي كالذهب والفضة ، أو يصاغ منها آنية أو آلة كالحديد والرصاص والنحاس ، وبين الزبد الذي يطفو فوق المعدن المذاب ، وهذا الزبد يضمحل تماما كما يضمحل الزبد الذي يحمله السيل .. والحق كالمعدن النافع أيا كان نوعه ، والباطل كالزبد الخبيث الذي يطفو فوق المعدن حين يذاب في النار ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ). فقوله : مما يوقدون معناه ان من المعادن ما يذاب في النار ليصاغ منه الزينة أو الآنية أو الآلة ، وقوله : زبد مثله معناه ان للمعادن زبدا لا جدوى منه تماما كالزبد الذي يحمله السيل.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ). أي يمثل الله ويصور الحق بيانا في صورة الماء والمعادن اللذين ينتفع بهما ، والباطل في صورة الزبد الذي لا ينتفع به (فَأَمَّا الزَّبَدُ) وهو الذي يحمله السيل أو يطفو على المعادن إذا أذيبت (فَيَذْهَبُ جُفاءً) باطلا (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو الماء والمعادن (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) للخير والحياة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) للحق والباطل وغيرهما.
ان كثيرا من المعاني يصعب إدراكها على الافهام ، وبالخصوص عند السواد الأعظم ، والتمثيل من أجدى الوسائل لتوضيحها والكشف عنها ، بالاضافة الى ان التمثيل كثيرا ما يضيف على البيان سموا وجمالا ، وقد ضرب الله الأمثال في العديد من آياته البيانية ، منها تمثيله الكفر والايمان بالظلمات والنور ، والعمى والبصر ، وتمثيله في هذه الآية الحق بالماء والمعدن ، والباطل بالزبد.
وتصور هذه الآية الإسلام في حقيقته ، والأصح تصور المسلم الحق في انه الذي ينفع الناس ، ويستمر نفعه لهم ويدوم ، تماما كالذي يحيي الأرض بعد موتها ، وكالمعدن الصلب تقام به المعامل والمصانع تنتج الآلات والأدوات ، وتبنى الحضارات ، فتقرب البعيد ، وتنشئ الأساطيل ، وتغزو الفضاء ، وتحرث الأرض ، وتملأ الدنيا خيرا وأمنا ورخاء .. والنتيجة الحتمية لذلك ان كل من نفع وأصلح وعمل من أجل حياة الإنسان وحريته وأمنه وهنائه فانه يلتقي بعمله هذا مع أهداف الإسلام ، وان لم يكن مسلما ، لأنه تماما كالماء والمعدن اللذين ضربهما الله مثلا