وبالمقارنة بين السؤالين في الجملتين يظهر الفرق بينهما فإنّ في سؤال إبراهيم (عليهالسلام) من الأدب والثناء والإقرار بأصل المعاد وطلب الزيادة في العلم والمعرفة ما لا يخفى ولذا كان في هذا السؤال شؤون ومخاطبة بين الخليلين بخلاف السؤال السابق.
كما يستفاد الفرق بين النبيّ الذي مرّ على القرية وإبراهيم من ذيل الآية الشريفة ، فإنّ في الأول قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولكن في الثاني قال الله تعالى لإبراهيم : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي يفعل الأتم الأصلح ، فالأول اعتراف بأصل قدرة الله تعالى وفي الثاني يعلمه الله عزوجل بأنّ الذات الأقدس قويّ وفاعل للأصلح فوق ما نتعقله من معنى القوة والأصلحية ، فالخليل يربي خليله بأمتن أسرار الخلّة وأدق لطائف الارتباط والصّلة وهو تفاني جميع شؤونه في مرضاة العزيز الحكيم.
والظاهر أنّ هذا السؤال كان قبل إراءة الله تعالى لخليله ملكوت السموات والأرض فإنّها غاية الكمال الممكن ، فتكون هذه القضية من مبادئ تلك الإراءة التفصيلية الإحاطية ، فتكون إراءة إجمالية لتحقق الإراءة الكلية ، فلا بد وأن يحمل قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على بعض المعاني كما سيأتي. مع أنّ إراءة الملكوت سفر من الحق إلى الحق بالحق ، وأما القضية فهي تشرح السفر من الخلق إلى الحق وبينهما بون بعيد فيكون المراد بقوله : (أَرِنِي) الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم وعلم اليقين. وكيف كان فهو سؤال استعطاف وفيه لطف وعناية ومثله بين الخليلين كثير لا يفهمه إلا من كان من أهله.
وبدأ السؤال بكلمة : (رَبِ) لأنّ فيه اعترافا بالعبودية ، ولبيان تمام العناية بعبده وتربيته العظمى له وفيه كمال الثناء عليه جلّ وعلا ، ولأنّ الدعاء المبدو بهذا الاسم الشريف أقرب إلى الاستجابة ، ويستفاد منه أدب الدعاء أيضا ، ولأجل ذلك وغيره غلب هذا الاسم الشريف في دعوات إبراهيم (عليهالسلام) وقد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلّق بكلمة الرب فراجع.