ولكنّ الأصل في إفاضة جميع أفراد الحكمة والعرفان ومراتبها هو الإخلاص لله جلّ جلاله فعن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وأنطق بها لسانه» وعن جمع من أكابر علماء النفس دعوى التجربة في ذلك ، فتكون حقيقة الحكمة ارتباطا خاصا مع عالم الغيب وأما غيرها فهو فنّ وصناعة وهما شيء والحكمة الواقعية شيء آخر.
نعم ، الحكمة تارة تكون علمية واخرى عملية ولا نهاية لمراتبهما اما الثانية فغايتها الرضوان ولقاء الله تعالى ولا نهاية لكلّ واحد منهما وأما الأولى فإنّ غايتها الاستلهام من الغيب وهو غير محدود ، والتحديد إنّما يكون من الممكن المستفيض لا في المبدإ المفيض.
وقال بعض الأعاظم من الحكماء المتألهين : «إنّ غاية ما للإنسان من الكمال هو الاتصال بالعقل الفعال المسيطر على الملك والملكوت تسيطر الروح على الجسد». وهذا صحيح إذا كان المراد بذلك روح القرآن والشريعة الأحمدية المنبعثة عن الحقيقة المطلقة الأحدية لأنّ الإحاطة بالواقعيات صعبة جدّا إن لم تكن ممتنعة مهما بلغت فطنة العقول في الحدة والذكاء والدقة لا سيّما بالنسبة إلى المعارف وأسرار القضاء والقدر التي لا يمكن أن يحيط بها غير علّام الغيوب ، وقد ورد النّهي عن الخوض في جملة منها وأنّه لا يزيد الخوض فيها إلا تحيّرا ، فلا مناص للحكيم الا الوقوف على ظواهر الكتاب والسنة المقدّسة وهي تحتوي على معادن العلم والحكمة والمعارف وما يكفي لتكميل النفوس الناقصة وإيصالها إلى أوج الكمال والمعرفة وهي الحكمة الحقة التي تفيد لجميع النشآت قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ـ ٢٨] ، أي الكتاب المشروح بالسنة أو السنة الشارحة للكتاب ، وقال تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ـ ٥٩] ، وهو مصدر كلّ علم ومعرفة هذا بالنسبة إلى الحكمة العلمية.
وأما الحكمة العملية فلا بد وأن تكون مطابقة للشريعة المقدسة الختمية وإلا كانت لغوا محضا.