ثم إنّه غلب استعمال الحكمة على الفلسفة المتوارثة عن اليونان وقد اصطلح على قدماء الفلاسفة بالحكماء وقسموهم إلى الإشراقيين والمشّائيين والرّواقيين كما أنّهم قسموا الحكمة الاصطلاحية (الفلسفة) إلى علمية وعملية والثانية عبارة عن علم الفقه والأخلاق وقسموا الفقه إلى العبادات والمعاملات (أي العقود والإيقاعات) والأحكام والسياسات وأنّ بمعرفتها والعمل بها يصل الإنسان إلى مقام الإنسانية والخروج عن حدود الحيوانية البهيمية وبذلك تتم المدينة الفاضلة التي خلق الإنسان لأجل ورودها والاستكمال فيها.
وقسّمت الحكمة العلمية إلى قسمين : الإلهيات والطبيعيات ، ولكلّ واحد منهما فصول وأبواب ، وقد جعل كلّ فصل من فصول الطبيعيات في العصر الحديث علما مستقلا برأسه.
كما أنّ من فصول الفلسفة الإلهية البحث عن كلام الله تعالى من حيث قدمه وحدوثه وكثر النقض والإبرام فيه حتّى جعل ذلك علما مستقلا له أبواب كثيرة وفصول طويلة.
ولكن كلّ من نظر في الحكمة الاصطلاحية يرى أنّها كغبار على اللجين ولو فرض فيها شيء صحيح فهو مستلهم من الوحي المبين أو السنة المقدسة وغيره ليس الا من الأوهام والتخيلات والمغالطات وكلّ واحد منها حجاب عن الوصول إلى الواقع ولذلك كثر الخلاف وقلّ الوصول إلى المراد ، وقد ذكرنا أنّ الحكمة بمعزل عن البطلان والتكذيب ومنزّهة عن جميع ذلك ، وإذا كانت الحكمة ما ذكروه فليست هي الا العلم بالمصطلحات فقط فهي كعلم اللغة مثلا وهي صنعة وفنّ لا تزيد على سائر الصنايع والفنون بل ربما يكون بعضها أفضل منها كما هو المحسوس.
قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).
يؤت مبني للمفعول مجزوم بأداة الشرط ، والحكمة مفعول ثان وإنّما أبهم تعالى الفاعل مع أنّه معلوم مما تقدم وهو الله تعالى لبيان أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالحكمة والخير الكثير مقرونان فمن تلبس بها فقد