والقمر وكانت هي المدبّرة لما في هذا العالم ، جعل ما فوق الأرض من الأسطقسّات مشفّا لينفذ فيها الشعاع ، وجعلت الأرض ملوّنة بالغبرة ليثبت عليها الشعاع ولم يحط بها الماء فيستقرّ عليها الكائنات.
والسبب الطبيعيّ في ذلك يبس الأرض وحفظها للشكل الغريب إذا استحال منه أو إليه ، فلا يبقى مستديرا بل مضرّسا ، ويميل الماء إلى الغور من أجزائه ، والأجرام السماويّة لم تخلق بجميع أجزائها مضيئة ، وإلاّ لتشابه فعلها في الأمكنة والأزمنة ، ولا بجميع أجزائها كثيفة ، وإلاّ لما نفذ عنها الشعاع ، بل خلق فيها كواكب ، ثمّ لم يجعل الكواكب ساكنة ، وإلاّ أفرط فعلها في موضع بعينه ، ففسد ذلك الموضع ولم يؤثّر في موضع آخر ، ففسد ذلك أيضا ، بل جعلت متحركة لينتقل التأثير من موضع إلى آخر ، ولا يبقى في موضع واحد فيفسد.
ولو كانت الحركة التي ترى لها غير سريعة ، لفعلت من الإفراط والتفريط ما يفعل السكون ، ولو كانت حركتها الحقيقيّة تلك السريعة بعينها ، للزمت دائرة واحدة وأفرط فعلها هناك ولم يبلغ سائر النواحي ، بل جعلت هذه الحركة فيها تابعة لحركة مشتملة على الكلّ ، ولها في نفسها حركة بطيئة تميل بها إلى نواحي العالم جنوبا وشمالا ، ولو لا أنّ للشمس مثل هذه الحركة لم يكن شتاء ولا صيف ولا فصول ، فخولف بين منطقتي الحركتين ، وجعلت الأولى سريعة وهذه بطيئة ، فالشمس تميل إلى الجنوب شتاء ليستولي على الأرض الشماليّة البرد ، وتتحقّق الرطوبات في باطن الأرض وتميل إلى الشمال بعد ذلك صيفا لتستولي الحرارة على ظاهر الأرض ، وتستعمل الرطوبات في تغذية النبات والحيوان ، وإذا جفّ باطن الأرض يكون البرد جاء ، والشمس مالت فتارة تحيل الأرض غذاء ، وتارة تعدّ.
ولمّا كان القمر يفعل شبيه ما يفعل الشمس من التسخين والتحليل إذا كان متبدّرا قويّ النور ، جعل مجراه في تبدّره مخالفا لمجرى الشمس ، فالشمس تكون في الشتاء جنوبيّة والبدر شماليّا لئلاّ يعدم السببان المسخّنان معا.