وإلاّ لتسلسل ، ولزم مع ذلك أن يجتمع في المحلّ الواحد صور متساوية في الماهيّة ، مختلفة بالعدد فقط ، وذلك محال.
فإذن إنّما يحتاج في الإدراك إلى صورة المدرك. أمّا الاحتياج إلى صورة ذهنيّة ، فقد يكون حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك ، وعدم الحضور يكون ، إمّا لكون المدرك غير موجود أصلا ، أو لكونه غير موجود عند المدرك ، أي يكون بحيث لا يصل إليه الإدراك البتّة ، وذلك إنّما يكون بسبب شيء من الموانع العائدة إمّا إلى المدرك نفسه ، أو آلة الإدراك ، أو إليهما جميعا (١).
ثمّ قال : وإدراك الأوّل تعالى إمّا لذاته ، فيكون بعين ذاته لا غير ، ويتّحد هناك المدرك والمدرك والإدراك ، ولا تتعدّد إلاّ بالاعتبارات التي تستعملها العقول.
وإمّا لمعلولاتها القريبة منه فيكون بأعيان ذوات تلك المعلولات ؛ إذ لا يتصوّر هناك عدم حضورها بالمعاني المذكورة أصلا ، وتتّحد هناك المدركات والإدراكات ، ولا يتعدّدان إلاّ بالاعتبار ، ويغايرهما المدرك.
وإمّا لمعلولاته البعيدة كالمادّيّات والمعدومات التي من شأنها إمكان أن توجد في وقت ، أو تتعلّق بموجود ، فيكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أوّلا وبالذات ، وكذلك إلى أن ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركيها ؛ وذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر ، والمدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه ، فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ، ولا في السماء ، ولا أصغر منها ولا أكبر ، فيكون ذوات معلولاته مرتسمة بجميع الصور وهي التي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين ، وتارة باللوح المحفوظ ، ويسمّيها الحكماء بالعقول الفعّالة ، ولا يلزم على هذا التقدير شيء من المحالات المذكورة والمذاهب الشنيعة (٢). انتهى كلامه.
__________________
(١) « شرح رسالة العلم » : ٢٨.
(٢) « شرح رسالة العلم » : ٢٨ ـ ٢٩.