وكلّ فعل يصدر عن فاعل والفاعل يعرف صدوره عنه ، ويعرف أنّه فاعله ، فإنّ ذلك الفعل صدر عن علم ، وكلّ فعل صدر عن إرادة فإمّا أن يكون مبدأ تلك الإرادة علما أو ظنّا أو تخيّلا.
مثال ما يصدر عن العلم فعل المهندس أو الطبيب ، ومثال ما يصدر عن الظنّ التحرّز ممّا فيه خطر ، ومثال ما يصدر عن التخيّل فإمّا أن يكون شيئا يشبه شيئا عاليا ، أو طلبا لشيء يشبه شيئا حسنا ليخلصه بمشابهة الأمر العالي أو الأمر الحسن.
ولا يجوز أن يكون فعل واجب الوجود بحسب الظنّ أو بحسب التخيّل ؛ فإنّ ذلك يكون لغرض ، ويكون معه انفعال ؛ فإنّ الغرض يؤثّر في ذي الغرض فإذن ينفعل عنه ، وواجب الوجود بذاته واجب من جميع جهاته ، فإن حدث فيه غرض من جهة انفعاله عن الغرض ، فلا يكون واجب الوجود بذاته ، فإذن يجب أن يكون إرادته علميّة.
ثمّ قال : الأولى أن نفصّل أمر الإرادة ، فنقول : نحن إذا أردنا شيئا ، فإنّا نتصوّر ذلك الشيء تصوّرا إمّا ظنّيّا وإمّا تخيّليا وإمّا علميّا ، وأنّ ذلك الشيء المتصوّر موافق ، والموافق هو أن يكون حسنا أو نافعا ، ثمّ يتبع هذا التصوّر والاعتقاد شوق إليه وإلى تحصيله ، فإذا قوي الشوق والإجماع حرّكت القوّة التي في العضلات الآليّة إلى تخيّله.
ولهذا السبب تكون أفعالنا تابعة للغرض ، وقد بيّنّا أنّ واجب الوجود تامّ ، بل فوق التامّ ، فلا يصحّ أن يكون فعله لغرض ، فلا يصحّ أن يعلم أنّ شيئا هو موافق له ، فيشتاقه ثمّ يحصّله ، فإذن إرادته من جهة العلم أن يعلم أنّ ذلك الشيء كونه خير من لا كونه ، وأنّ وجود ذلك يجب أن يكون على الوجه الفلانيّ حتّى يكون وجودا فاضلا ، فلا يحتاج بعد هذا العلم إلى إرادة أخرى ليكون هذا الشيء موجودا ، بل نفس علمه بنظام الأشياء الممكنة على الترتيب الفاضل هو سبب موجب لوجود تلك الأشياء على النظام الموجود والترتيب الفاضل.