أقول : لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع كذبه تعالى أيضا بأن يقال : إنّه تعالى لو اتّصف بالصدق ، لكان صدقه قديما فيمتنع عليه الكذب المقابل لذلك الصدق ، لكنّا نعلم ضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه لا على ما هو عليه.
فإن قيل : الإخبار عن الشيء لا على ما هو عليه نقص.
قلنا : كان رجوعا إلى الوجه الأوّل.
وقيل : هذا الوجه أيضا إنّما يدلّ على كون الكلام النفسيّ صادقا دون الكلام اللفظيّ.
أقول : لا يمكن الجواب بمثل ما ذكرنا في الوجه الأوّل ـ بأن يقال : كذب الكلام اللفظيّ راجع إلى كذب الكلام النفسيّ كما ذكرنا آنفا ، وكذب الكلام النفسيّ قديم ، فكذب اللفظيّ أيضا قديم ، ويلزم ما ذكر من المحذور ـ ؛ لأنّهم لمّا جوّزوا حدوث الكلام اللفظيّ مع قدم الكلام النفسيّ ، فلأن يجوّزوا حدوث صفة اللفظيّ ـ أعني حدوث كذبه ـ لكان أولى ، ولقبول العقول أحرى.
الثالث ـ وهو معتمد الأصحاب ؛ لدلالته على الصدق في الكلام اللفظيّ والنفسيّ معا ، ولبراءته عن المناقشات ـ : إجماع العلماء والأنبياء عليهمالسلام ، وقد ثبت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقّف على ثبوت كلام الله تعالى فضلا عن صدقه ». (١)
أقول : أورد المقدّس الأردبيليّ رحمهالله على قوله : « أقول : لا يمكن ... » بأنّه لا يخفى أنّه يمكن الجواب بمثل ما تقدّم بعينه هنا أيضا بأن يقال : لمّا ثبت أنّ الكلام النفسيّ صادق ، ولا معنى لصدق الكلام اللفظيّ إلاّ صدق المعنى بناء على ما ذكره من أنّ كذبه راجع إليه ، وأن يقال : لا يمكن صدق الأوّل مع كذب الثاني ؛ فإنّ معنى صدق الأوّل مطابقته للواقع ، وكذب الثاني عدم مطابقة معناه للواقع ، ومعناه هو الكلام النفسيّ ، فيلزم كذبه على تقدير كذبه ، وهو ظاهر ؛ فإنّ قدم أحدهما لا يستلزم قدم
__________________
(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣١٩ ـ ٣٢٠.